السلام عليكِ، يا مريم! لا تخافي! لقد وجدتِ نعمة عند الله
يسعدني أن أُحيِيَ معكم اليوم ألذكرى السنوية الأولى لبداية خدمتي بقداس الشكر والإستغفار والإنطلاق من جديد. الشكر لله على هذه السنة من خدمتي وعلى ما أغدق علينا خلالها من خير ونِعم. والشكر لكم ولكلّ الذين التقيناهم في مختلف المناسبات، وقد أعربتم جميعكم عن علاقة الشركة والمحبة بشتّى الطرق. والإستغفار عن كل نقص او خطأ أو سبب إساءة، مؤكّداً أنّه لم يكن مقصوداً ولو مرّة واحدة. والإنطلاق من جديد، بالإتكال على نعمة الله وصلاتكم، وبالتزام تحقيق "الشركة والمحبة" مع الله ومع كلّ إنسان
2. في بشارة الملاك لمريم، إتَّخذَ الله، بفيضٍ من محبته، مبادرةَ الدخول في شركة إتحاد مع الجنس البشري بشخص مريم البتول المخطوبة ليوسف من الناصرة. فكان "سلامُ الملاك لها" تهنئةً بامتلائها من النعمة الإلهية. وقد كشفت الكنيسة هذا الإمتلاء ومعانيه بإعلانها عقيدة الحبل بلا دنس على لسان الطوباوي البابا بيوس التاسع في 8 كانون الأول 1854. فكانت التهيئة لهذه الشركة بالإعلان العقائدي: "إنّ العذراء مريم الكلّية القداسة، في اللحظة الأولى من الحبل بها في حشا أمها، حُفظتْ معصومة من دنس الخطيئة الأصلية، بنعمةٍ خاصّة وامتيازٍ من الله الكلّي القدرة، إستباقاً لاستحقاقات يسوع المسيح، مخلِّص الجنس البشري"الدستور الرسولي “Ineffabilis Deus” – 8 كانون الأول 1854
3. أما "الحظوة التي وجدتها عند الله" فهي أنّ ابن الله يلج حشاها جنيناً بقدرة الروح القدس، فيصبح اتحادُها الروحيُّ بالله إتحاداً عضوياً. إنها الشركة العمودية مع الله بامتياز، وتصبح مريم لكلّ إنسان مؤمن ولكلّ مؤمنة النموذج والمثال لهذا الإتحاد. إنّ مبادرة الله الأولى بعصمة مريم من خطيئة آدم الأصلية، والثانية بدعوتها لتكونَ أمَّ ابنه المتجسِّد، فعلا حبٍّ كبير، ومريم بدورها بادلت الحبّ بالحبّ عندما أجابت الملاك: "أنا أمة الرب". فتقبّلت بكلّ قلبها إرادة الله الخلاصية، وكرّست ذاتها بكلّيتها لشخص ابنها ورسالته، وأضحت بنعمة الله القدير شريكة الفداء. ذلك أنّها حافظت على الإتحاد بابنها حتى الصليب، حيث وقفت منتصبة، متألّمة مع ابنها الوحيد آلاماً مبرّحة، مشتركة بذبيحته بقلبٍ والدي، حتى سلّمها مِن على الصليب الأمومة لكلّ إنسان، بل للكنيسة وللبشرية جمعاء بشخص يوحنا الرسول: "يا امرأة هذا ابنُكِ! ويا يوحنّا هذه أمك"(يو19: 26-27). هكذا اتّضح سرُّ الألم البشري الذي تُولد منه ثمارٌ جديدة، فيبقى على كلّ واحد منا، يقول الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني، أن يكتب صفحة خاصّة به في إنجيل الألم الخلاصي
4. من آلام المسيح وموته وُلدت الكنيسة، كما تُولد السنبلة من حبّة القمح التي تقع في الأرض وتموت(يو12: 34). وُلدتِ الكنيسة عندما جرى دمٌ وماء من صدر يسوع المطعون بالحربة، وهو ميتٌ على الصليب. فكان الماء رمز المعمودية التي بها نولد أبناءً لله وأخوةً بعضنا لبعض، والخمر رمز دم المسيح الذي يشير إلى محبته العظمى: ففي ذبيحة القداس يغسل الربُّ يسوع بدمه خطايا التائبين، وفي وليمة جسده ودمه يعطي الحياة للعالم. الكنيسة هي أداة الشركة وعلامتها: فهي من جهة جماعة المؤمنين المتّحدين بالله (الشركة العمودية)، ومن جهة ثانية جماعة المتّحدين بعضهم ببعض وبكلّ الناس (الشركة الأفقية). إلى هذه الكنيسة ننتمي، لنكون جماعة الشركة والمحبة
مريم الأمّ البتول ليسوع التاريخي، أصبحت بآلامها على أقدام الصليب، أمّاً بتولاً للمسيح الكلّي الذي هو الكنيسة، وأصبحت صورتها ومثالها. فالكنيسة أمّ وبتول تلدنا بالكلمة والمعمودية أبناءً لله، بالإبن الوحيد (الشركة العمودية) وإخوة بعضنا لبعض (الشركة الأفقية). الكلّ بفيضٍ من محبة الله لنا بالمسيح، وبجوابِ الحبّ منّا الذي نعيشه مع الله وجميع الناس
5. يسعدني أن أُصدرَ اليوم الرسالة العامة الأولى، وهي بعنوان "شركة ومحبة"، ومؤلَّفة من مقدّمة وأربعة فصول
في المقدّمة أكشف أسباب اختياري لشعار "شركة ومحبة" وأبعاده وآفاقه
في الفصل الأول، أقدِّم المفهوم اللاهوتي والروحي والعملي للشركة والمحبة
في الفصل الثاني، أعرض تحقيق الشركة والمحبة في ما أنشأنا من دوائر في الكرسي البطريركي، للخدمة الروحية والإدارية والراعوية، وللتواصل مع الجميع في لبنان وبلدان الشرق الأوسط وعالم الإنتشار
في الفصل الثالث، أتناول ممارسة الشركة والمحبة على مختلف الأصعدة: مع قداسة البابا والكرسي الرسولي، مع السلطات اللبنانية، المدنية والكنسية والإسلامية، والزيارات الراعوية في لبنان والخارج، والإنطباعات
في الفصل الرابع، أتوسّع في الشركة والمحبة على مستوى الحياة الوطنية، إنطلاقاً من الميثاق الوطني، ميثاق العيش معاً مسيحيين ومسلمين في دولة مدنية تحترم جميع الأديان، ومن الصيغة اللبنانية التي تنظّم المشاركة المتوازنة في الحكم والإدارة، وصولاً إلى استكمال الدولة المدنية وفقاً لمقتضياتها وأبعادها الخارجية وموقعها المتوسطي، فإلى تعزيز النموّ الاقتصادي والعدالة الاجتماعية
6. بالعودة إلى عيد بشارة العذراء مريم الذي شاءه اللبنانيون عيداً وطنياً جامعاً بين المسيحية والإسلام، إنما ندرك دعوتنا ورسالتنا المشتركة في لبنان تجاه الشرق والغرب، إذ نقرأ في مستهل الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" أنّ "لبنان بلد طالما اتجهت إليه الأبصار"(فقرة1)، لأنّه، يقول الإرشاد: "أرضٌ نموذجية، يُدعى فيها أناس مُتنوِّعون ثقافياً ودينياً إلى العيش معاً، وإلى بناء أمّة حوار وعيش واحد، وإلى الإسهام في خير الجميع. وتسعى فيها الجماعات المسيحية والإسلامية إلى إبراز تقاليدها الأكثر حيوية، وإلى إعادة اكتشاف الثروات الثقافية المشتركة والمتكاملة التي توطّد العيش الواحد الوطني"الفقرة 119
7. ويُعلِّمنا حدثُ البشارة لمريم "في ملء الزمن"(غلا4:4) أنّ الله هو سيدُ تاريخ البشر، يسهرُ عليه ويقودُه بحبِّه وحكمته، لكي يكونَ تاريخَ خلاصٍ للبشرية جمعاء. البشارة لمريم تُشكّل فيه نقطة وصول وإنطلاق. أما نقطة الوصول فهي بعد مسيرة الوعد بالإنتصار على الخطيئة والشرّ، طيلة العهدِ القديم. وهو وعدٌ قطعه الله لحواء المرأة الأولى بعد سقطتها وإغواء الحيّة – الشيطان لها، إذ قال للحيّة: "أجعل عداوة بينكِ وبين المرأة، وبين نسلكِ ونسلها، فهو يسحق رأسكِ، وأنت ترصدين عقبه"(تك3: 15). فتحقَّق الوعدُ بالبشارة لمريم التي هي المرأة الجديدة البريئة من خطيئة آدم وحواء، ومن أي خطيئة شخصية. ونسلها هو يسوع المسيح فادي الإنسان والمفتدون به. والحيّة هي الشيطان "ابو الكذب"(يو8: 44) وكلّ الذين أغواهم وساروا في طريق الخطيئة والشرّ، وينهجون نهجه باعتماد الكذب والتضليل
أما نقطة الإنطلاق فهي العهد المسيحاني الجديد، عهد النعمة والإنتصار على الخطيئة والموت الذي بدأه يسوع المسيح، ابن مريم بالجسد وابن الله منذ الأزل، مذ تَكوَّن في حشا مريم يوم البشارة. وهكذا دخل الله، بالمسيح وعمل الروح القدس، في قلب الأسرة البشرية وتاريخها، جاعلاً من هذا التاريخ تحقيقاً لتصميمه الخلاصي، بالتعاون مع كلِّ إنسان، ولاسيما الذين أصبحوا بالمعمودية أعضاءً في جسده السرّيِّ الذي هو الكنيسة. إنّ الكنيسة، بعنصرَيها الإلهي والبشري – التي يُسمّيها القديس أغسطينوس "المسيح الكلّي"- مؤتمنة على تحقيقِ تصميمِ الخلاص بواسطة كلِّ واحدٍ من أعضائها، لخيرِ جميع الشعوبِ والأمم، مُدركةً أنّ طريقَها شاقٌ إذ "تسيرُ - على ما يقول القديس أغسطينوس أيضاً – بين اضطهاداتِ العالم وتعزياتِ الله"
8. نُدركُ من كلِّ ذلك أنَّ حدثَ البشارة لا ينتهي في الماضي، بل يستمرُّ كتحقيقٍ متواصلٍ لتصميم الله الخلاصي، عبرَ كلِّ إنسان، ولاسيما المسيحيين أعضاءِ جسدِ المسيح. فيتغيَّر فقط الزمانُ والمكانُ والأشخاص. ويبقى على كلِّ إنسان أن يكتشفَ، بالصلاة والتأمّل واستلهام الروح القدس، دورَه في تصميم الخلاص الذي ينتظرُه اللهُ منه. ولهذا نقول: لا يمكن إقصاءُ أحدٍ من المواطنين أو الاستغناءُ عنه أو إلغاؤه، أيّاً يكن دينُه وثقافتُه ورأيُه. لبنان بحاجة إلى كلِّ طائفة ومذهب وحزب وفرد وجماعة. فهو ينهضُ بمساهمة الجميع، وبالقيمة المُضافة التي يُشكِّلها الأفراد والجماعات. هذا هو موقفُنا وموقفُ الكنيسة، وبحكمِ ثقافتنا المسيحية نرفض ونشجب في الوقت عينه الانقسامَ والاستعداءَ والخلافَ الناتجَ عن الاختلافِ في الرأي أو الدِّين أو الثقافة؛ فالوحدةُ في التنوّع هي هويتُنا اللبنانية ورسالتُنا وواجبُنا؛ ونرفضُ وندينُ العنفَ يُمارَس على أرضنا وفي أي مكانٍ آخر، وكلَّ تحريضٍ عليه. فكلُّ كائنٍ بشري يظهر على الأرض هو ذو قيمة وكرامة وقُدسيّة لأنه مُرادٌ من الله ومعروفٌ منه، وهو على صورتِه مخلوق ومُفتدًى بدمِ المسيح، ومعاونُه في تحقيق إرادته الخلاصيّة عبر التاريخ. فأيُّ اعتداءٍ على حياة أي إنسان أو جسدِه أو كرامتِه أو صيتِه أو مصيره، أياً يكن السبب، هو اعتداءٌ على الله سيّدِ الحياةِ وحده
9. على هذا الأساس، وقياماً بواجب البطريركية التاريخي ومسؤوليتها في لبنان والعالم العربي وبلدان الانتشار وتلبية لنداءات التحديات، أجدِّد الدعوة إلى جميع اللبنانيين من أجل التعالي عن كلِّ ما يفرِّق في ما بينهم وعدم التلهّي بالصغائر، في زمن يُنتظَر فيه من لبنان أن يُقدِّم ذاته، على مساحة دول الشرق الأوسط، كنموذج للعيش معاً المشترك. فيكون السبيل الأول إلى ذلك تحقيق المصالحة المُستدامة والوحدة الوطنية بين جميع مكوِّنات الوطن – الرسالة
وعليه، أبدأ مع إخواني السادة المطارنة وأبناء كنيستنا وبناتها، إكليروساً وعلمانيين، أينما وُجدوا، السنة الثانية من خدمتي البطريركية، ودائماً في خطّ "الشركة والمحبة"، بالتعاون معكم ومع جميع المواطنين وذوي الإرادة الحسنة، لمجد الله ومرضاته وإكرامه، الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين