النَّار لدى أشعيا
توطئة
سأقوم ببحثي هذا بدراسة كلمة نار لدى أشعيا، في البداية سأقوم بعرض موضوع النَّار بشكل عام في مقدِّمة مقتضبة، مبيِّنًا ما تنطوي عليه من معانٍ مختلفة ضمن الكتاب المقدَّس، ومن ثمَّ أنتقل إلى تحديد الكلمة لدى أشعيا النَّبيّ وأنتهي بخلاصة
مقدِّمة
النَّار في العبرية: אש. وفي اليونانيَّة: Φωτιά، لا نعرف كيف كان بنو إسرائيل يُشعلون النَّار، لكن يُذكر أنَّهم كانوا يستعملون الحجر وهي عادة قديمة جدًّا؛ كانت النَّار من أهم ضرورات حياة الإنسان، فهي تُستَعمَل لطبخ الأكل، وللتَّدفئة والإنارة، والنَّار هي عامل تدمير لكلِّ ما يحمل مرضًا أو نجاسة، بل لإزالة انسان اقترف ذنبًا جنسيًا خطيرًا، وتدمير الأوثان، وكانت سلاح حرب، وتُستخدم من أجل الذَّبائح وفي خدمة الهيكل؛ نجد أنَّه في وقت السَّبي، أُخفِيَت نار الهيكل
في النَّار يُظهر الله مجدَه وعظمته، إذ كانت تُحيط بالربّ حين ظهر لموسى؛ خلال اللَّيل كان عمود من النَّار يقود شعب اسرائيل عبر بريّة سيناء. النار وسيلة تطهير أو عقاب. يُصَوَّر غضبُ الله مرارًا بشكل نار، فالنَّار تطهّر، تنقّي، تدمِّر ما هو نجس. لهذا، فالنَّار هي أداة عقاب الله ودينونته والنَّار هي إحدى العلامات التي تعلن مسبقًا مجيء الرب. وسوف تتمّ دينونة الله بالنار، وتمتحن نوعيّة أعمال البشر، وتعبِّر عن قوّة الحبّ، عن لسان الله، عن حضوره، عن الشرّ
النَّار لدى أشعيا تحديدًا
أش44: 16): يُحرِقُ نِصفَه بِالنَّار، وعلى نِصفِه يَشْوي لَحْماً، ثُمَّ يأكُلُ ما شُوِيَ ويَشبعُ ويَستَدفِئُ ويَقول: "آه! قدِ آستَدفَأتُ ورَأَيت ناراً
تأتي كلمة نار في هذه الآية كوسيلة للتَّدفئة، خاصَّة عندما يقول كلمة قد استدفأت، ومن الآية السَّابقة أي الآية (15) حيث يذكر أسماء الأشجار كالأَرْز والسِّندِيانة والبُطمَة والصَنَوبَرة فأَنْماها المَطَر وستكون للإنسان لكي يستدفيء
(أش5: 24): فلِذلك كما يَلتَهِمُ لَهيبُ النَّارِ القَشّ وكما يَفْنى الحَشيشُ المُلتَهِب يَكونُ أَصلُهم كالنَّتْن وبُرعُمُهم يَتَناثَرُ كالتُّراب لأنَّهم نَبَذوا شَريعةَ رَبِّ القُوَّات واستَهانوا بِكَلِمَةِ قُدُّوسِ إِسْرائيل
هنا تُذكر الآية ضمن إطار اللَّعنات حيث سيُحْرَق الأشخاص بلهيب النَّار، أي هنا تُستخدم النَّار كوسيلة للحكم وكلعنة، حيث سيفني الحشيش، ويجعل البراعم الحديثة النُّموّ تتناثر كالتُّراب؛ والسَّبب هو أنَّ هذا الشَّعب قد نبذ شريعة الله واستهان بكلمة قدُّوس إسرائيل. كذلك الأمر ينطبق على (أش33: 12): وتَكونُ الشُّعوبُ كمُحتَرِقِ الكِلْس وكشَوكٍ مَقْطوعٍ يُحرَقُ بِالنَّار
هذه الآية تحمل ذات المعنى السَّابق أي الحُكم واللَّعنة، حيث ستكون الشُّعوب كمحترق الكلس، وكشوك مقطوع يُحرق بالنَّار
(أش26: 11): أَيُّها الرَّبُّ، يَدُكَ مُرتَفِعةٌ وهم لا يَرَون فلْيَرَوا غَيرَتَكَ على الشَّعبِ ولْيَخزَوا ولْتَلتَهِمِ النَّارُ أَعْداءَكَ
النَّار هنا هي أداة عقاب الله ودينونته، لأنَّ الله يُظهر غيرته على شعبه، وبالتَّالي كل من يمسّه بأذى سيعاقبه الله ويدينه، لأنَّهم أعداء ويقومون ضدَّ شعبه
(أش43: 2): إِذا عَبَرتَ المِياهَ فإِنِّي مَعَكَ أَوِ الأَنْهارَ فلا تَغمُرُكَ وإذا سِرتَ في النَّارِ فلا تَكتَوي ولا يَلفَحُكَ اللَّهيب
تأتي هذه الآية ضمن إطار وضع الثِّقة بالله لأنَّه الحامي لإسرائيل والمحرِّر له، فبهذه الآية هو يُشدِّد إسرائيل لأنَّه معه إذا عبر المياه، والأنهار، وإذا سار بالنَّار فلن يتأثَّر باللَّهيب؛ فالمعنى الَّذي تحمله كلمة نار هي الخطر الكبير المحدق، وكأنَّ الله يقول لإسرائيل، بأنَّه لو سار بالخطر فلن يؤثِّر عليك
(أش9: 17): لأنَّ الشَّرَّ يَحرِقُ كالنَّار يَلتَهِمُ الحَسَكَ والشَّوك وُيشعِلُ النَّارَ في أَدْغَالِ الغابَة فيَتَصاعَدُ عَمودُ دُخان
هنا يُشبَّه الشَّر بالنَّار بقدرته على إحراق غابة إسرائيل، فالمعنى الأساسيّ هنا أن النَّار هي علامة الشَّر
( أش6: 6): فطارَ إِلَيَّ أَحَدُ السَّرافين، وبِيَدِه جَمرَةٌ أَخَذَها بِمِلقَطٍ مِنَ المَذبَح
هنا تدخل النَّار أو الجمرة في نظام الرَّمزيَّة الدِّينيَّة، حيث تدلّ الجمرة على القدرة على التَّطهير من الإثم وإزالته، وكذلك على التَّكفير عن الخطايا، هذا ما حصل مع أشعيا عندما قال لله أنَّه دنس الشَّفتين، ويقيم بين شعب دنس الشَّفتين، ولأنَّه قد طهَّرت النَّار شفتيه فسيُعلن كلمة الله دونما اضطراب
(أش30: 27): هُوَذا آسمُ الرَّبِّ آتٍ مِن بَعيد غَضَبُه مُضطَرِمٌ ووَعيده شَديد وشَفَتاه مُمتَلِئتانِ سُخطاً ولِسانُه كنارٍ آكِلَة؛ كذلك (أش30: 30): وسيُسمعُ الرَّبُّ جَلالَ صَوتِه ويُري نُزولَ ذِراعِه في سَورةِ غَضَبٍ ولَهيبِ نارٍ آكِلَة وصاعِقَةٍ ووابِلٍ وحِجارَةِ بَرَد
هنا النَّار آتية لتُحرق الدُّوَل الخاطئة في محرقة ضخمة، فهي دليل على كارثة كبيرة جدًّا من جرَّاء غضب الله المضطرم كلهيب نار، فصورة النَّار تدل على عِظَمِ قوَّتها الَّتي لا تشبع من أن تأكل كل ما يقف في طريقها، فهي صورة تحمل الدَّمار والخراب، وعلى شدَّة غضب الله، الَّذي ينطق بلسانه الحكم، والدَّينونة على الشَّعب
(أش 66: 15-16): لأَنَّه هُوَذا الرَّبُّ يَأتي في النَّار ومَركَباتُه كالزَّوبَعة ليُروِيَ غَليلَ غَضَبِه بِحَنَق وتَهْديدَه بِلَهيبِ نار.16لأنَّ الرَّبَّ بِالنَّارِ والسَّيفِ يُحاكِمُ كُلَّ بَشَر ويَكون قَتْلى الرَّبِّ كَثيرين
هنا تمثِّل النَّار صورة الدَّينونة الأخيرة حيث ستتم بالحرق ليروي الله غليل غضبه، وهذه النَّار تفصل الصَّالح عن الخاطيء، والخير عن الشَّر، والحق عن الباطل، هكذا تفعل نار دينونة الله، إذ تفصل الأخيار عن الأشرار؛ فالأوَّل يتألَّق نقاوة، والثَّاني إلى العذاب الأبديّ
(أش66: 24): ويَخرُجونَ ويَرون جُثَثَ النَّاسِ الَّذينَ عَصَوني لأنَّ دودَهم لا يَموت ونارَهم لا تُطفَأ ويَكونونَ رُذالَةً لِكلِّ بَشَر
في خضمِّ خطبة أخيريَّة لدى أشعيا، يُظهر النَّار هنا بأنَّها تدخل إلى العمق، فتُحرق من الدَّاخل، فهي تُحرق جُثث النَّاس الَّذين عَصَوا الرَّبّ، فتكون وسيلة هلاك لأجسادهم بنار لا تطفأ فتُحرق داخل الإنسان وتُفنيه، ولا مجال له لأن ينجو، فهي هنا وسيلة عقاب ودينونة، وكذلك تحمل معنىً نهيويًّا
(أش4: 5): خَلَقَ الرَّبُّ على كُلِّ مَكانٍ في جَبَلِ صِهْيونَ وعلى مَحافِلِها غَماماً في النَّهارِ ودُخاناً، وضِياءَ نارٍ مُلتَهِبَةٍ في اللَّيل. فيَكونُ على كُلِّ المَجدِ كَنَفٌ
نرى هنا كلّ الَّذين خُلِّصوا يحيط بهم يهوه كسورٍ من نار، فهو هنا يحميهم، وبالتَّالي النَّار تعني الحماية من كلِّ ما يُصيب النَّاجين من الأخطار، وهي أيضًا تمنع وصول الخطر من الخارج فتحرقه، وتحفظ من في الدَّاخل سالمًا من كلِّ أذى
خلاصة
بعد استعراضنا المعاني المختلفة للنَّار، نستنتج مِمَّا تقدَّم حول موضوع النَّار في سفر أشعيا بأنَّه يحمل الكثير من الأمور والمعاني المتنوِّعة من حيث أنَّها وسيلة للتَّدفئة، وكوسيلة للحكم أو اللَّعنة، أيضًا أداة عقاب ودينونة، وعلى الخطر الكبير، وكعلامة شرّ، وعلى وسيلة تطهير، وعلى صورة للدَّينونة، ووسيلة لإهلاك الأجساد من الدَّاخل، وأيضًا على أنَّها السُّور الحامي لكل من يستمع إلى كلمة الله ويسير بحسب تعاليمه
لا يسعنا أن نغفل المعنى الأساسيّ للنَّار في العهد القديم، فقد أستنجد العهد الجديد بالنَّار ليستخدمها في عدَّة مراجع، ولتحمل عدَّة معانٍ إذ يسوع سيعمِّد بالنَّار، والدَّينونة ستكون في نار لا تطفأ، ويستخدمها بولس للحديث عن الأزمنة الإسكاتولوجيَّة، وما إليها من معانٍ تُبيِّن الارتباط الثَّقافيّ والرمزيّ للنَّار عبر العصور، وهو مختزن في ذاكرة العبرانيِّين، فيصل إلى معنى أعمق بل إلى تمام معناه بوجود الرَّب يسوع
المراجع
عبد الله بطرس (الدّكتور)، 1971.قاموس الكتاب المقدَّس، بيروت: مجمع الكنائس في الشَّرق الأدنى
مجموعة من الاختصاصييِّن، 1986.ط2:معجم اللآهوت الكتابي، دار المشرق: لبنان
الفغالي بولس (الخوري)، 2003، ط1: المحيط الجامع في الكتاب المقدَّس والشَّرق القديم، المكتبة البولسيَّة:جونية
سأقوم ببحثي هذا بدراسة كلمة نار لدى أشعيا، في البداية سأقوم بعرض موضوع النَّار بشكل عام في مقدِّمة مقتضبة، مبيِّنًا ما تنطوي عليه من معانٍ مختلفة ضمن الكتاب المقدَّس، ومن ثمَّ أنتقل إلى تحديد الكلمة لدى أشعيا النَّبيّ وأنتهي بخلاصة
مقدِّمة
النَّار في العبرية: אש. وفي اليونانيَّة: Φωτιά، لا نعرف كيف كان بنو إسرائيل يُشعلون النَّار، لكن يُذكر أنَّهم كانوا يستعملون الحجر وهي عادة قديمة جدًّا؛ كانت النَّار من أهم ضرورات حياة الإنسان، فهي تُستَعمَل لطبخ الأكل، وللتَّدفئة والإنارة، والنَّار هي عامل تدمير لكلِّ ما يحمل مرضًا أو نجاسة، بل لإزالة انسان اقترف ذنبًا جنسيًا خطيرًا، وتدمير الأوثان، وكانت سلاح حرب، وتُستخدم من أجل الذَّبائح وفي خدمة الهيكل؛ نجد أنَّه في وقت السَّبي، أُخفِيَت نار الهيكل
في النَّار يُظهر الله مجدَه وعظمته، إذ كانت تُحيط بالربّ حين ظهر لموسى؛ خلال اللَّيل كان عمود من النَّار يقود شعب اسرائيل عبر بريّة سيناء. النار وسيلة تطهير أو عقاب. يُصَوَّر غضبُ الله مرارًا بشكل نار، فالنَّار تطهّر، تنقّي، تدمِّر ما هو نجس. لهذا، فالنَّار هي أداة عقاب الله ودينونته والنَّار هي إحدى العلامات التي تعلن مسبقًا مجيء الرب. وسوف تتمّ دينونة الله بالنار، وتمتحن نوعيّة أعمال البشر، وتعبِّر عن قوّة الحبّ، عن لسان الله، عن حضوره، عن الشرّ
النَّار لدى أشعيا تحديدًا
أش44: 16): يُحرِقُ نِصفَه بِالنَّار، وعلى نِصفِه يَشْوي لَحْماً، ثُمَّ يأكُلُ ما شُوِيَ ويَشبعُ ويَستَدفِئُ ويَقول: "آه! قدِ آستَدفَأتُ ورَأَيت ناراً
تأتي كلمة نار في هذه الآية كوسيلة للتَّدفئة، خاصَّة عندما يقول كلمة قد استدفأت، ومن الآية السَّابقة أي الآية (15) حيث يذكر أسماء الأشجار كالأَرْز والسِّندِيانة والبُطمَة والصَنَوبَرة فأَنْماها المَطَر وستكون للإنسان لكي يستدفيء
(أش5: 24): فلِذلك كما يَلتَهِمُ لَهيبُ النَّارِ القَشّ وكما يَفْنى الحَشيشُ المُلتَهِب يَكونُ أَصلُهم كالنَّتْن وبُرعُمُهم يَتَناثَرُ كالتُّراب لأنَّهم نَبَذوا شَريعةَ رَبِّ القُوَّات واستَهانوا بِكَلِمَةِ قُدُّوسِ إِسْرائيل
هنا تُذكر الآية ضمن إطار اللَّعنات حيث سيُحْرَق الأشخاص بلهيب النَّار، أي هنا تُستخدم النَّار كوسيلة للحكم وكلعنة، حيث سيفني الحشيش، ويجعل البراعم الحديثة النُّموّ تتناثر كالتُّراب؛ والسَّبب هو أنَّ هذا الشَّعب قد نبذ شريعة الله واستهان بكلمة قدُّوس إسرائيل. كذلك الأمر ينطبق على (أش33: 12): وتَكونُ الشُّعوبُ كمُحتَرِقِ الكِلْس وكشَوكٍ مَقْطوعٍ يُحرَقُ بِالنَّار
هذه الآية تحمل ذات المعنى السَّابق أي الحُكم واللَّعنة، حيث ستكون الشُّعوب كمحترق الكلس، وكشوك مقطوع يُحرق بالنَّار
(أش26: 11): أَيُّها الرَّبُّ، يَدُكَ مُرتَفِعةٌ وهم لا يَرَون فلْيَرَوا غَيرَتَكَ على الشَّعبِ ولْيَخزَوا ولْتَلتَهِمِ النَّارُ أَعْداءَكَ
النَّار هنا هي أداة عقاب الله ودينونته، لأنَّ الله يُظهر غيرته على شعبه، وبالتَّالي كل من يمسّه بأذى سيعاقبه الله ويدينه، لأنَّهم أعداء ويقومون ضدَّ شعبه
(أش43: 2): إِذا عَبَرتَ المِياهَ فإِنِّي مَعَكَ أَوِ الأَنْهارَ فلا تَغمُرُكَ وإذا سِرتَ في النَّارِ فلا تَكتَوي ولا يَلفَحُكَ اللَّهيب
تأتي هذه الآية ضمن إطار وضع الثِّقة بالله لأنَّه الحامي لإسرائيل والمحرِّر له، فبهذه الآية هو يُشدِّد إسرائيل لأنَّه معه إذا عبر المياه، والأنهار، وإذا سار بالنَّار فلن يتأثَّر باللَّهيب؛ فالمعنى الَّذي تحمله كلمة نار هي الخطر الكبير المحدق، وكأنَّ الله يقول لإسرائيل، بأنَّه لو سار بالخطر فلن يؤثِّر عليك
(أش9: 17): لأنَّ الشَّرَّ يَحرِقُ كالنَّار يَلتَهِمُ الحَسَكَ والشَّوك وُيشعِلُ النَّارَ في أَدْغَالِ الغابَة فيَتَصاعَدُ عَمودُ دُخان
هنا يُشبَّه الشَّر بالنَّار بقدرته على إحراق غابة إسرائيل، فالمعنى الأساسيّ هنا أن النَّار هي علامة الشَّر
( أش6: 6): فطارَ إِلَيَّ أَحَدُ السَّرافين، وبِيَدِه جَمرَةٌ أَخَذَها بِمِلقَطٍ مِنَ المَذبَح
هنا تدخل النَّار أو الجمرة في نظام الرَّمزيَّة الدِّينيَّة، حيث تدلّ الجمرة على القدرة على التَّطهير من الإثم وإزالته، وكذلك على التَّكفير عن الخطايا، هذا ما حصل مع أشعيا عندما قال لله أنَّه دنس الشَّفتين، ويقيم بين شعب دنس الشَّفتين، ولأنَّه قد طهَّرت النَّار شفتيه فسيُعلن كلمة الله دونما اضطراب
(أش30: 27): هُوَذا آسمُ الرَّبِّ آتٍ مِن بَعيد غَضَبُه مُضطَرِمٌ ووَعيده شَديد وشَفَتاه مُمتَلِئتانِ سُخطاً ولِسانُه كنارٍ آكِلَة؛ كذلك (أش30: 30): وسيُسمعُ الرَّبُّ جَلالَ صَوتِه ويُري نُزولَ ذِراعِه في سَورةِ غَضَبٍ ولَهيبِ نارٍ آكِلَة وصاعِقَةٍ ووابِلٍ وحِجارَةِ بَرَد
هنا النَّار آتية لتُحرق الدُّوَل الخاطئة في محرقة ضخمة، فهي دليل على كارثة كبيرة جدًّا من جرَّاء غضب الله المضطرم كلهيب نار، فصورة النَّار تدل على عِظَمِ قوَّتها الَّتي لا تشبع من أن تأكل كل ما يقف في طريقها، فهي صورة تحمل الدَّمار والخراب، وعلى شدَّة غضب الله، الَّذي ينطق بلسانه الحكم، والدَّينونة على الشَّعب
(أش 66: 15-16): لأَنَّه هُوَذا الرَّبُّ يَأتي في النَّار ومَركَباتُه كالزَّوبَعة ليُروِيَ غَليلَ غَضَبِه بِحَنَق وتَهْديدَه بِلَهيبِ نار.16لأنَّ الرَّبَّ بِالنَّارِ والسَّيفِ يُحاكِمُ كُلَّ بَشَر ويَكون قَتْلى الرَّبِّ كَثيرين
هنا تمثِّل النَّار صورة الدَّينونة الأخيرة حيث ستتم بالحرق ليروي الله غليل غضبه، وهذه النَّار تفصل الصَّالح عن الخاطيء، والخير عن الشَّر، والحق عن الباطل، هكذا تفعل نار دينونة الله، إذ تفصل الأخيار عن الأشرار؛ فالأوَّل يتألَّق نقاوة، والثَّاني إلى العذاب الأبديّ
(أش66: 24): ويَخرُجونَ ويَرون جُثَثَ النَّاسِ الَّذينَ عَصَوني لأنَّ دودَهم لا يَموت ونارَهم لا تُطفَأ ويَكونونَ رُذالَةً لِكلِّ بَشَر
في خضمِّ خطبة أخيريَّة لدى أشعيا، يُظهر النَّار هنا بأنَّها تدخل إلى العمق، فتُحرق من الدَّاخل، فهي تُحرق جُثث النَّاس الَّذين عَصَوا الرَّبّ، فتكون وسيلة هلاك لأجسادهم بنار لا تطفأ فتُحرق داخل الإنسان وتُفنيه، ولا مجال له لأن ينجو، فهي هنا وسيلة عقاب ودينونة، وكذلك تحمل معنىً نهيويًّا
(أش4: 5): خَلَقَ الرَّبُّ على كُلِّ مَكانٍ في جَبَلِ صِهْيونَ وعلى مَحافِلِها غَماماً في النَّهارِ ودُخاناً، وضِياءَ نارٍ مُلتَهِبَةٍ في اللَّيل. فيَكونُ على كُلِّ المَجدِ كَنَفٌ
نرى هنا كلّ الَّذين خُلِّصوا يحيط بهم يهوه كسورٍ من نار، فهو هنا يحميهم، وبالتَّالي النَّار تعني الحماية من كلِّ ما يُصيب النَّاجين من الأخطار، وهي أيضًا تمنع وصول الخطر من الخارج فتحرقه، وتحفظ من في الدَّاخل سالمًا من كلِّ أذى
خلاصة
بعد استعراضنا المعاني المختلفة للنَّار، نستنتج مِمَّا تقدَّم حول موضوع النَّار في سفر أشعيا بأنَّه يحمل الكثير من الأمور والمعاني المتنوِّعة من حيث أنَّها وسيلة للتَّدفئة، وكوسيلة للحكم أو اللَّعنة، أيضًا أداة عقاب ودينونة، وعلى الخطر الكبير، وكعلامة شرّ، وعلى وسيلة تطهير، وعلى صورة للدَّينونة، ووسيلة لإهلاك الأجساد من الدَّاخل، وأيضًا على أنَّها السُّور الحامي لكل من يستمع إلى كلمة الله ويسير بحسب تعاليمه
لا يسعنا أن نغفل المعنى الأساسيّ للنَّار في العهد القديم، فقد أستنجد العهد الجديد بالنَّار ليستخدمها في عدَّة مراجع، ولتحمل عدَّة معانٍ إذ يسوع سيعمِّد بالنَّار، والدَّينونة ستكون في نار لا تطفأ، ويستخدمها بولس للحديث عن الأزمنة الإسكاتولوجيَّة، وما إليها من معانٍ تُبيِّن الارتباط الثَّقافيّ والرمزيّ للنَّار عبر العصور، وهو مختزن في ذاكرة العبرانيِّين، فيصل إلى معنى أعمق بل إلى تمام معناه بوجود الرَّب يسوع
المراجع
عبد الله بطرس (الدّكتور)، 1971.قاموس الكتاب المقدَّس، بيروت: مجمع الكنائس في الشَّرق الأدنى
مجموعة من الاختصاصييِّن، 1986.ط2:معجم اللآهوت الكتابي، دار المشرق: لبنان
الفغالي بولس (الخوري)، 2003، ط1: المحيط الجامع في الكتاب المقدَّس والشَّرق القديم، المكتبة البولسيَّة:جونية