الأم في الكتاب المقدَّس
مقدِّمة
لم يُطلق هذا اللّفظ في العهد القديم على الأمّ الحقيقيَّة فحسب، بل كان يُطلق أيضًا على الجدّة وزوجة الأب وعلى القائدة، فمقام الأم بارز في الكتاب المقدَّس، فقد ورد في سفر الأمثال الكثير عنهنَّ مثلاً: "الابن الحكيم يَسُرُّ أباه والابن الجاهل غمّ لأمّه"[1]، وكذلك في التُّوراة: أكرم أباك وأمّك، لكي تطول أيَّامُك في الأرض الَّتي يُعطيك الرَّب إلهك إيَّاها[2]، وكانت أمُّ الملك تكرّم وتحترم جدًّا[3]، وكانت مريم أمّ الرَّب يسوع المسيح المباركة مثالاً نبيلاً للأمومة في إيمانها[4] وفي محبتها لأبنها عندما بحثت عنه ولم تجده[5]، وقد عهد المخلِّص وهو على الصَّليب بأمّه إلى الرَّسول يوحنَّا[6]. وقد أخذ تيموثاوس الإيمان ومعرفة الكتاب المقدَّس عن أمه أفينكي التي نشأت بدورها في معرفة الرَّب على يدي أمها لوئيس[7]. إن الأم إذ تعطي الحياة، تحتلّ مكانة ممتازة في حياة النَّاس العاديَّة، كما في تاريخ الخلاص، فهي تُعطي الحياة ويجب أن تكون محبوبة، إلاَّ أنَّ الحب الواجب نحوها ينبغي أن يبلغ أحيانًا إلى حدِّ التَّضحية
أوَّلاً: الدَّعوة إلى الخصب
قصد آدم بتسمية امرأته "حواء" أن يُشير إلى دعوتها لأن تكون "أم الأحياء". يروي سفر التَّكوين كيف تتحقق فيما بعد دعوة المرأة، وأحيانًا رغم الظروف المعاكسة، كما فعلت سارة عندما لجأت إلى حيلة عندما طلبت من إبراهيم أن يدخل على الخادمة هاجر لينجب البنين، وتعمَّد ابنتا لوط إلى زنىً محرَّم[8]، وراحيل تلجأ إلى التَّهديد صارخة في وجه زوجها يعقوب: "هب لي ولدًا، وإلا فإني أموت" ولكنَّ يعقوب يجيب معترفًا بأنه لا يستطيع أن يحلَّ محل الله[9]. في الواقع، الله وحده الذي وضع في قلب المرأة رغبة الأمومة الملحّة، فهو يفتح ويغلق الأحشاء الأموميّة: إنه هو وحده يستطيع أن يتغلَّب على العقم[10
ثانيًا: الأمّ في الأسرة
عندما تُصبح المرأة أمًّا تتهلَّل، إن حواء عند ولادتها الأولى ابتهجت فرحًا، وقالت: "قد رُزقتُ رجلاً من عند الرب"[11]، فرحًا سوف يُخلِّده اسم قايين الَّذي يعني "اقتنى"، وكذلك يذكِّرنا "اسحق" بضحك سارة وفرحها ساعة ولادته[12]، ويوسف يذكِّرنا برجاء راحيل بأن يكون لها ولدًا[13]. على أن المرأة لا تدخل بأمومتها في تاريخ الحياة فحسب، بل وتثير عند زوجها تعلُّقًا أوثق بها[14]. أخيرًا تعلن الوصايا العشر أنه يحقّ للأم أن تجد لها لدى أولادها احترامًا، مثل الأب تمامًا، ويوجب جميع أنواع التَّهاون بالنِّسبة إليها العقاب نفسه: "من لعن أباه أو أمَّه، فليُقتل قتلاً"[15]، وتلحّ كتب الحكمة بدورها بشأن الاحترام الذي يتوجب على كل انسان نحو أمه مثلاً: "من يلعن أباه أو أمّه ينطفئ سراجه في قلب الليل"[16]، كما أنَّه ينبغي الاستماع إليها واتباع تعليماتها
ثالثًا: الملكة الأم
يبدو أن دورًا خاصًّا كان يقع على عاتق أُم الملك، الَّتي هي وحدها تتمتَّع بخلاف الزَّوجة بكرامة خاصَّة عند الأمير المالك، فكانت تدعى بـ "السيدة الكبيرة" مثل بتشابع. قد يوضح هذا العُرف ظهور الأمومة في إطار "المسيحانيَّة الملكيَّة"، هذا وجديرٌ بنا أن نشير إلى دور أم يسوع، الَّتي اغدقت عليها لغة التَّقوى المسيحيَّة اسم "سيدتنا"
رابعًا: معنى الأمومة العميق
إن واجب التَّقوى البنويَّة لم يبطله مجيء المسيح، بل أكمله، فحبًّا بيسوع يجب أن نتجاوز التَّقوى البنويَّة، بتكميلها بالتَّقوى نحو الله ذاته، فقد جاء يسوع، "ليفرّق بين البنت وأمها"، وهو يعد بمائة ضعف كل من ترك من أجله أبًا أو أمًا، وعليه، فمن يريد أن يستحق يسوع يجب أن يكون أهلاً لأن "يبغض أباه وأمه"؛ أي أن يحبَّ يسوع أكثر من والديه
إنَّ يسوع نفسه يكون لنا القدوة في تضحية العلاقات بالأم: ففي الهيكل، وهو بعد في الثانية عشرة، يدّعي الحق تجاه أمه على أن يكون في بيت أبيه[17] فلئن لبّى أخيرًا في قانا ما تطلبه أمه، فذلك لكي يُفهمها أن ليس لها بعد أن تتدخل في شؤونه، وذلك إمَّا لأن ساعة خدمته العامَّة قد أذنت، وإمَّا لأن ساعة الصَّلب لم تأتِ بعد، على أن يسوع وإن أقام على هذا النَّحو فارقًا بينه وبين أمِّه، فليس معنى ذلك أنَّه يتجاهل عظمة مريم الحقيقيَّة: بل يكشف عنها بالعكس من خلال الإيمان الَّذي تبديه: "من هي أمي ومن هم إخوتي؟" ويشير بيده إلى تلاميذه[18] ؛ إنَّه يشرح للمرأة المعجبة بأمومة مريم الجسديَّة، أنَّ مريم هي المؤمنة بكل معنى الكلمة، لأنَّها تسمع كلمة الله وتنفّذها عمليًّا، (هذه الأمومة الرُّوحية يوسّع يسوع دائرتها لتشمل جميع تلاميذه، عندما يصرّح من علوِّ صليبه، للتلميذ الذي يحبه: "هذه أمك
خامسًا: الأُم في تاريخ الخلاص
إنَّ الصِّفات المميِّزة للأم، نجدها منقولة مجازًا في صدد التَّعبير عن موقف إلهيّ معيّن، أو عن حقيقة تتعلَّق بالوعود المرتبطة بالمسيَّا، أو أيضًا عن خصوبة الكنيسة
أ) الحنان والحكمة الإلهية: إنَّ ملء الحياة يفيض في الله لدرجة تدعو إسرائيل إلى أن يطلق عليه اسم الأب والأم. وتعبيرًا عن حنان الله "الرَّحيم" يستعمل لفظ "رَحَميم" الذي يعني الأحشاء الأموميَّة، ويذكِّر بالانفعال الباطنِيّ الَّذي تشعر به المرأة نحو ثمرة أحشائها[19] إن الله يُعزّينا كأم[20]، ولئن وُجد بين النِّساء من تنسى ابن أحشائها، فالله لن ينسى إسرائيل أبدًا[21]: هكذا يريد يسوع أن يجمع أبناء أورشليم[22
ب) أُم المسيّا: إن النبؤات تعلن مسبقًا أن المرأة الَّتي سيسحق نسلها رأس الحيّة هي أُم[23]. ثمَّ في الرِّوايات الوارد فيها أنتصار الله على العقم، نرى أن النِّسوة اللاتي أعطين للآباء نسلاً، يرمزن رمزًا عن بعد للعذراء - الأم. وقد أعلن هذا الحبل البتوليّ في النبوات الخاصَّة بالعمانوئيل[24] وبتلك التي ينبغي أن تلد[25]، وقد أدرك الإنجيليون منه، على أيَّة حال، تمام النبوَّة في يسوع المسيح[26
ج) أم الشعوب: إنَّ أورشليم هي المدينة - الأم بأسمى معنى[27]، المدينة الَّتي يستمد منها السُّكَّان الغذاء والحماية؛ عنها ينبع على وجه الخصوص البّر ومعرفة الله، إنَّها، مثل رفقة، الَّتي تمنَّى لها ذووها بأن تتكاثر فتصير ألوف الربوات، سوف تُصبح أُمًّا لسائر الشُّعوب: إن "لصهيون يقول كل واحد: أُم، لأنَّ فيها كلُّ واحد قد ولِد"[28]، سواء أكان من إسرائيل أم من الأمم. وها هي أخيرًا، بعد العقاب الذي أبعدها عن عريسها، تُزفُّ من جديد بثوب السَّعادة: "إندفعي بالتَّرنيم واصرخي، أيتها الَّتي لم تتمخَّض، فإن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل"[29] إن كلَّ شعوب الأرض ستندفع نحوها "اندفاع الحمام إلى كُواها" (إشعيا 2: 1- 5، راجع 60: 1- 8). إلاَّ أنَّ أورشليم بانطوائها على ذاتها، وبرفضها المسيح، قد خانت هذه الأمومة الروحيَّة (لوقا 19: 41- 44)، وقد ينقلب أبناؤها عليها ليوبّخونها عن ذلك (هوشع 2: 4). ولذلك فإنه سيُستغنى عنها، وتحل مكانها أورشليم أخرى، تلك التي من فوق، والتي هي أُمنا حقيقةً (غلاطية 4: 26)، فتنزل من السَّماء، من عند الله (رؤيا 21: 2). وهذه المدينة الجديدة هي الكنيسة التي تلِد أبناءها لحياة أبناء الله وهي أيضًا بوجه خاص كل جماعة مسيحيَّة (2 يوحنا 1). ولقد أُعدَّت لإعطاء المسيح ملء جسده، ولجمع كل الشُّعوب في إسرائيل الرُّوحيّ (أفسس4: 13). وباشتراك الرُّسل في هذه الأمومة، يكونون هم الأداة لهذه الخصوبة، الفرحة من خلال الألم (راجع يوحنا 16: 20-22). ويقول بولس لأحبَّائه الغلاطيين أنَّهُ يتمخَّض بهم حتى يُصوِّر فيهم المسيح (غلاطية 4: 19). ويذكر التَّسالونيكيين كيف أنَّه أحاطهم برعايته، كأم تغذّي أولادها (1 تسالونيكي 2: 7-8). إلاَّ أنَّ هذه الأمومة لا قيمة لها، إلا بأمومة المرأة التي تكون دونما انقطاع في آلام الولادة كما في أفراحها. الرَّمز الَّذي من ورائه تبدو كل الأمَّهات. ابتداء من حواء أمّ الأحياء، إلى الكنيسة أمّ المؤمنين، عبورًا بمريم أم يسوع وأمنا (رؤيا 12
1 ( أمثال 10: 1) بالإضافة إلى(15: 20 و 17: 25 و 29: 15 و31: 1)
2 (خر 20: 12) بالإضافة إلى (وتث 5: 16 و 21: 18-21 ولا 19: 3)
3 (1 مل 2: 19)
4 (لو 1: 38)
5 (لو 2: 48)
6 (يو 19: 26 و27)
7 (2 تيم 1: 5)
8 (تك19: 30- 38)
9 (تك 30: 1 – 2)
10 (1صموئيل 1: 2 إلى 2 : 5)
[11] (تكوين 4: 1)
[12] (تكوين 21: 6)
[13] (تكوين 30: 24)
14 (تكوين 29: 34)
15 (خروج21: 17) بالإضافة إلى (لاويين 20: 9، تثنية 21: 18- 21)
16 (أمثال20: 20) بالإضافة إلى (أمثال 19: 26،، 23: 22، سيراخ 3: 1- 16)
17 (لوقا 2: 49-50)
[18] (متى 12: 48- 50)
[19] (مزمور 25 (24): 6، 116 (114 و115: 5)
[20] (أشعيا 66: 13)
[21] (أشعيا 49: 15)
[22] (لوقا 13: 34)
[23] (تكوين 3: 15)
[24] (إشعيا 7: 14)
[25] (ميخا 5: 2)
[26] (متى 1: 23، لوقا 1: 35- 36)
[27] (راجع 2 صموئيل 20: 19)
[28] (مزمور 87: 5)
[29] (إشعيا 54: 1) وأيضًا (غلا طية 4: 22- 30)
مقدِّمة
لم يُطلق هذا اللّفظ في العهد القديم على الأمّ الحقيقيَّة فحسب، بل كان يُطلق أيضًا على الجدّة وزوجة الأب وعلى القائدة، فمقام الأم بارز في الكتاب المقدَّس، فقد ورد في سفر الأمثال الكثير عنهنَّ مثلاً: "الابن الحكيم يَسُرُّ أباه والابن الجاهل غمّ لأمّه"[1]، وكذلك في التُّوراة: أكرم أباك وأمّك، لكي تطول أيَّامُك في الأرض الَّتي يُعطيك الرَّب إلهك إيَّاها[2]، وكانت أمُّ الملك تكرّم وتحترم جدًّا[3]، وكانت مريم أمّ الرَّب يسوع المسيح المباركة مثالاً نبيلاً للأمومة في إيمانها[4] وفي محبتها لأبنها عندما بحثت عنه ولم تجده[5]، وقد عهد المخلِّص وهو على الصَّليب بأمّه إلى الرَّسول يوحنَّا[6]. وقد أخذ تيموثاوس الإيمان ومعرفة الكتاب المقدَّس عن أمه أفينكي التي نشأت بدورها في معرفة الرَّب على يدي أمها لوئيس[7]. إن الأم إذ تعطي الحياة، تحتلّ مكانة ممتازة في حياة النَّاس العاديَّة، كما في تاريخ الخلاص، فهي تُعطي الحياة ويجب أن تكون محبوبة، إلاَّ أنَّ الحب الواجب نحوها ينبغي أن يبلغ أحيانًا إلى حدِّ التَّضحية
أوَّلاً: الدَّعوة إلى الخصب
قصد آدم بتسمية امرأته "حواء" أن يُشير إلى دعوتها لأن تكون "أم الأحياء". يروي سفر التَّكوين كيف تتحقق فيما بعد دعوة المرأة، وأحيانًا رغم الظروف المعاكسة، كما فعلت سارة عندما لجأت إلى حيلة عندما طلبت من إبراهيم أن يدخل على الخادمة هاجر لينجب البنين، وتعمَّد ابنتا لوط إلى زنىً محرَّم[8]، وراحيل تلجأ إلى التَّهديد صارخة في وجه زوجها يعقوب: "هب لي ولدًا، وإلا فإني أموت" ولكنَّ يعقوب يجيب معترفًا بأنه لا يستطيع أن يحلَّ محل الله[9]. في الواقع، الله وحده الذي وضع في قلب المرأة رغبة الأمومة الملحّة، فهو يفتح ويغلق الأحشاء الأموميّة: إنه هو وحده يستطيع أن يتغلَّب على العقم[10
ثانيًا: الأمّ في الأسرة
عندما تُصبح المرأة أمًّا تتهلَّل، إن حواء عند ولادتها الأولى ابتهجت فرحًا، وقالت: "قد رُزقتُ رجلاً من عند الرب"[11]، فرحًا سوف يُخلِّده اسم قايين الَّذي يعني "اقتنى"، وكذلك يذكِّرنا "اسحق" بضحك سارة وفرحها ساعة ولادته[12]، ويوسف يذكِّرنا برجاء راحيل بأن يكون لها ولدًا[13]. على أن المرأة لا تدخل بأمومتها في تاريخ الحياة فحسب، بل وتثير عند زوجها تعلُّقًا أوثق بها[14]. أخيرًا تعلن الوصايا العشر أنه يحقّ للأم أن تجد لها لدى أولادها احترامًا، مثل الأب تمامًا، ويوجب جميع أنواع التَّهاون بالنِّسبة إليها العقاب نفسه: "من لعن أباه أو أمَّه، فليُقتل قتلاً"[15]، وتلحّ كتب الحكمة بدورها بشأن الاحترام الذي يتوجب على كل انسان نحو أمه مثلاً: "من يلعن أباه أو أمّه ينطفئ سراجه في قلب الليل"[16]، كما أنَّه ينبغي الاستماع إليها واتباع تعليماتها
ثالثًا: الملكة الأم
يبدو أن دورًا خاصًّا كان يقع على عاتق أُم الملك، الَّتي هي وحدها تتمتَّع بخلاف الزَّوجة بكرامة خاصَّة عند الأمير المالك، فكانت تدعى بـ "السيدة الكبيرة" مثل بتشابع. قد يوضح هذا العُرف ظهور الأمومة في إطار "المسيحانيَّة الملكيَّة"، هذا وجديرٌ بنا أن نشير إلى دور أم يسوع، الَّتي اغدقت عليها لغة التَّقوى المسيحيَّة اسم "سيدتنا"
رابعًا: معنى الأمومة العميق
إن واجب التَّقوى البنويَّة لم يبطله مجيء المسيح، بل أكمله، فحبًّا بيسوع يجب أن نتجاوز التَّقوى البنويَّة، بتكميلها بالتَّقوى نحو الله ذاته، فقد جاء يسوع، "ليفرّق بين البنت وأمها"، وهو يعد بمائة ضعف كل من ترك من أجله أبًا أو أمًا، وعليه، فمن يريد أن يستحق يسوع يجب أن يكون أهلاً لأن "يبغض أباه وأمه"؛ أي أن يحبَّ يسوع أكثر من والديه
إنَّ يسوع نفسه يكون لنا القدوة في تضحية العلاقات بالأم: ففي الهيكل، وهو بعد في الثانية عشرة، يدّعي الحق تجاه أمه على أن يكون في بيت أبيه[17] فلئن لبّى أخيرًا في قانا ما تطلبه أمه، فذلك لكي يُفهمها أن ليس لها بعد أن تتدخل في شؤونه، وذلك إمَّا لأن ساعة خدمته العامَّة قد أذنت، وإمَّا لأن ساعة الصَّلب لم تأتِ بعد، على أن يسوع وإن أقام على هذا النَّحو فارقًا بينه وبين أمِّه، فليس معنى ذلك أنَّه يتجاهل عظمة مريم الحقيقيَّة: بل يكشف عنها بالعكس من خلال الإيمان الَّذي تبديه: "من هي أمي ومن هم إخوتي؟" ويشير بيده إلى تلاميذه[18] ؛ إنَّه يشرح للمرأة المعجبة بأمومة مريم الجسديَّة، أنَّ مريم هي المؤمنة بكل معنى الكلمة، لأنَّها تسمع كلمة الله وتنفّذها عمليًّا، (هذه الأمومة الرُّوحية يوسّع يسوع دائرتها لتشمل جميع تلاميذه، عندما يصرّح من علوِّ صليبه، للتلميذ الذي يحبه: "هذه أمك
خامسًا: الأُم في تاريخ الخلاص
إنَّ الصِّفات المميِّزة للأم، نجدها منقولة مجازًا في صدد التَّعبير عن موقف إلهيّ معيّن، أو عن حقيقة تتعلَّق بالوعود المرتبطة بالمسيَّا، أو أيضًا عن خصوبة الكنيسة
أ) الحنان والحكمة الإلهية: إنَّ ملء الحياة يفيض في الله لدرجة تدعو إسرائيل إلى أن يطلق عليه اسم الأب والأم. وتعبيرًا عن حنان الله "الرَّحيم" يستعمل لفظ "رَحَميم" الذي يعني الأحشاء الأموميَّة، ويذكِّر بالانفعال الباطنِيّ الَّذي تشعر به المرأة نحو ثمرة أحشائها[19] إن الله يُعزّينا كأم[20]، ولئن وُجد بين النِّساء من تنسى ابن أحشائها، فالله لن ينسى إسرائيل أبدًا[21]: هكذا يريد يسوع أن يجمع أبناء أورشليم[22
ب) أُم المسيّا: إن النبؤات تعلن مسبقًا أن المرأة الَّتي سيسحق نسلها رأس الحيّة هي أُم[23]. ثمَّ في الرِّوايات الوارد فيها أنتصار الله على العقم، نرى أن النِّسوة اللاتي أعطين للآباء نسلاً، يرمزن رمزًا عن بعد للعذراء - الأم. وقد أعلن هذا الحبل البتوليّ في النبوات الخاصَّة بالعمانوئيل[24] وبتلك التي ينبغي أن تلد[25]، وقد أدرك الإنجيليون منه، على أيَّة حال، تمام النبوَّة في يسوع المسيح[26
ج) أم الشعوب: إنَّ أورشليم هي المدينة - الأم بأسمى معنى[27]، المدينة الَّتي يستمد منها السُّكَّان الغذاء والحماية؛ عنها ينبع على وجه الخصوص البّر ومعرفة الله، إنَّها، مثل رفقة، الَّتي تمنَّى لها ذووها بأن تتكاثر فتصير ألوف الربوات، سوف تُصبح أُمًّا لسائر الشُّعوب: إن "لصهيون يقول كل واحد: أُم، لأنَّ فيها كلُّ واحد قد ولِد"[28]، سواء أكان من إسرائيل أم من الأمم. وها هي أخيرًا، بعد العقاب الذي أبعدها عن عريسها، تُزفُّ من جديد بثوب السَّعادة: "إندفعي بالتَّرنيم واصرخي، أيتها الَّتي لم تتمخَّض، فإن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل"[29] إن كلَّ شعوب الأرض ستندفع نحوها "اندفاع الحمام إلى كُواها" (إشعيا 2: 1- 5، راجع 60: 1- 8). إلاَّ أنَّ أورشليم بانطوائها على ذاتها، وبرفضها المسيح، قد خانت هذه الأمومة الروحيَّة (لوقا 19: 41- 44)، وقد ينقلب أبناؤها عليها ليوبّخونها عن ذلك (هوشع 2: 4). ولذلك فإنه سيُستغنى عنها، وتحل مكانها أورشليم أخرى، تلك التي من فوق، والتي هي أُمنا حقيقةً (غلاطية 4: 26)، فتنزل من السَّماء، من عند الله (رؤيا 21: 2). وهذه المدينة الجديدة هي الكنيسة التي تلِد أبناءها لحياة أبناء الله وهي أيضًا بوجه خاص كل جماعة مسيحيَّة (2 يوحنا 1). ولقد أُعدَّت لإعطاء المسيح ملء جسده، ولجمع كل الشُّعوب في إسرائيل الرُّوحيّ (أفسس4: 13). وباشتراك الرُّسل في هذه الأمومة، يكونون هم الأداة لهذه الخصوبة، الفرحة من خلال الألم (راجع يوحنا 16: 20-22). ويقول بولس لأحبَّائه الغلاطيين أنَّهُ يتمخَّض بهم حتى يُصوِّر فيهم المسيح (غلاطية 4: 19). ويذكر التَّسالونيكيين كيف أنَّه أحاطهم برعايته، كأم تغذّي أولادها (1 تسالونيكي 2: 7-8). إلاَّ أنَّ هذه الأمومة لا قيمة لها، إلا بأمومة المرأة التي تكون دونما انقطاع في آلام الولادة كما في أفراحها. الرَّمز الَّذي من ورائه تبدو كل الأمَّهات. ابتداء من حواء أمّ الأحياء، إلى الكنيسة أمّ المؤمنين، عبورًا بمريم أم يسوع وأمنا (رؤيا 12
1 ( أمثال 10: 1) بالإضافة إلى(15: 20 و 17: 25 و 29: 15 و31: 1)
2 (خر 20: 12) بالإضافة إلى (وتث 5: 16 و 21: 18-21 ولا 19: 3)
3 (1 مل 2: 19)
4 (لو 1: 38)
5 (لو 2: 48)
6 (يو 19: 26 و27)
7 (2 تيم 1: 5)
8 (تك19: 30- 38)
9 (تك 30: 1 – 2)
10 (1صموئيل 1: 2 إلى 2 : 5)
[11] (تكوين 4: 1)
[12] (تكوين 21: 6)
[13] (تكوين 30: 24)
14 (تكوين 29: 34)
15 (خروج21: 17) بالإضافة إلى (لاويين 20: 9، تثنية 21: 18- 21)
16 (أمثال20: 20) بالإضافة إلى (أمثال 19: 26،، 23: 22، سيراخ 3: 1- 16)
17 (لوقا 2: 49-50)
[18] (متى 12: 48- 50)
[19] (مزمور 25 (24): 6، 116 (114 و115: 5)
[20] (أشعيا 66: 13)
[21] (أشعيا 49: 15)
[22] (لوقا 13: 34)
[23] (تكوين 3: 15)
[24] (إشعيا 7: 14)
[25] (ميخا 5: 2)
[26] (متى 1: 23، لوقا 1: 35- 36)
[27] (راجع 2 صموئيل 20: 19)
[28] (مزمور 87: 5)
[29] (إشعيا 54: 1) وأيضًا (غلا طية 4: 22- 30)