الكرمة في الكتاب المقدَّس
في معرض حديثي عن الكرمة في الكتاب المقدَّس، سأقسم بحثي هذا إلى مقدمة، ومن ثمَّ سأتحدث عن الكرمة على أنَّها فرح الإنسان، وثانيًا على أنَّ إسرائيل هو الكرمة غير الأمينة لله، وأخيرًا الكرمة الحقيقية مجد الله ومسرته
مقدِّمة
قلمّا نجد في النَّباتات ما يكون مرتبطًا في الوقت نفسه بمهارة الإنسان وبانتظام الفصول مثل الكرمة. تعلّم شعب إسرائيل كيف يستطيبون ثمار الأرض وكيف ينكبُّون على عمل مجزٍ مع الاعتماد الكليّ على سخاء العناية الإلهية. ومن جهة أخرى، فإن الكرمة النَّفيسة للغاية تنطوي على سرّ عجيب فهي تستمدّ كلّ قيمتها من ثمرها: عودها عديم الفائدة[1]، وأغصانها العقيمة لا تصلح إلا لأن تطرح في النار[2]. ولكنّ ثمرها "يسرّ الله والناس"[3]. فالكرمة تخفي إذًا سرًا أبعد عمقًا، فإنها تأتي بما يلذّ نفس الإنسان[4
أوَّلاً: الكرمة، فرح الإنسان
كانت مهنة الكرَّام تمتاز عن مهنة الفلاح[5]. أول من أُخبر عنه أنَّه غرس كرمًا هو نوح[6]بعد أن وعد الله بأن لا يعيد لعنها. ووجود الكروم على أرضنا علامة على بقاء بركة الله رغم خطيئة آدم. فالله يعد شعبه ويعطيه أرضًا جوّادة بالكروم[7]. وقد أتقن القدماء الاعتناء بالكروم ووضع ملكي صادق خبزًا وخمرًا أمام أبرام[8]. وشرب لوط خمرًا[9]. وكان أولاد أيوب يشربون الخمر[10]. وندَّد صاحب الأمثال بمن يدمن الخمر[11] وكذلك أشعياء النَّبيّ[12]، وهي للدلالة على الأمن ورغد العيشة "بل يجلسون كل واحد تحت كرمته وتحت تينته"[13] وأيضًا[14
لكنّ أولئك الذين يطأون المسكين[15] أو يخونون عهد الله[16] لن يشربوا من خمر كرومهم[17]التي يلتهمها الجراد[18] أو تصير قتادًا وشوكًا
إن الملك الذي يستولي على كروم رعاياه يقترف ظلمًا جسيمًا، وقد ارتكب آحاب[19]. هذا التَّعسُّف الَّذي تنبَّأ عنه صموئيل[20]. ولكن في عهد الملوك الصَّالحين، يعيش الجميع في سلام، كلّ بجوار كرمته وتينته، وسوف تتحقَّق هذه الصُّورة النّموذجيّة في الأزمنة المسيحانيّة[21]. حينئذ تكون الكرمة مثمرة[22]. وترمز الكرمة المنبتة إلى الحكمة[23] وإلى زوجة البار الخصبة[24]، كما أنها ترمز إلى أمل الزَّوجين اللذين يتغنيان بسرِّ الحبّ في نشيد الأناشيد
ثانيًا: إسرائيل، الكرمة غير الأمينة لله
إن إله إسرائيل، كزوج وكرّام، له كرمته، وهي شعبه. يرى هوشع في إسرائيل كرمة خصيبة يرجع فضل خصبها إلى "آلهة غير يهوه، هذا الإله الذي، بحكم عهد موسى أصبح زوجًا له[25]. وبالنسبة لأشعيا يحب الله كرمته، وقد صنع من أجلها كل ما يمكن عمله، ولكن بدلاً من ثمر العدل الذي كان ينتظره، لم تنتج إلا الأقطاف وسفك الدَّم، فسوف يسلِّمها للنَّاهبين[26]. ويرى إرميا في إسرائيل غرسًا مختارًا، قد تحوّل إلى غرس أجنبي عقيم، سوف تنزع أغصانها وتداس تحت الأقدام[27] وأخيرًا نرى حزقيال يشبّه، تارة إسرائيل الخائن لربه، وتارة الملك الحانث بعهده، بالكرمة الخصبة الَّتي سرعان ما تجف وتحترق وسوف يأتي يوم، تزدهر فيه الكرمة بفضل حراسة الله الساهرة، لذلك يلجأ إسرائيل إلى الوفاء نحو محبَّة الله، كي ينقذ هذه الكرمة التي نقل غرسها من مصر إلى أرضه، والتي اضطرّ إلى تسليمها للدَّمار والنَّار! إنها سوف تكون وفية له من الآن فصاعدًا[28
يرجع يسوع إلى مثل أشعيا ويوجز تاريخ الشعب المختار: إن الله توقَّف عن انتظار ثمار كرمته، ولكن بدلاً من الاستماع إلى الأنبياء الذين أرسلهم، أساء الكرّامون معاملتهم[29]، وفي قمّة الحب يرسل أخيرًا ابنه الحبيب، ومقابل هذا الحب، يبلغ رؤساء الشَّعب قمَّة الخيانة بقتلهم الابن الَّذي يؤول إليه ميراث الكرمة. لذلك سوف ينزل العقاب على المذنبين إلا أن موت الابن سيفتح مرحلة جديدة في تدبير الله، حينئذ تسلم الكرمة لكرّامين أمناء، سوف يؤدُّون له الثَّمر في أوانه
ثالثًا: الكرمة الحقيقيَّة، مجد الله ومسرَّته
ما لم يستطع إسرائيل أن يعطيه لله يعطيه يسوع له، فهو الكرمة المثمرة والكرمة الأصيلة الجديرة بهذه التَّسمية، فهو إسرائيل الحقيقي، وقد غرسه أبوه وأحاطه بكل عناية وقضبه، حتى يأتي بثمر وفير، وهو يؤتي ثمره فعلاً بالتَّضحية بحياته، بسفك دمه كأقصى دليل على الحبّ. وستصبح ثمرة الكرمة في سرِّ الأفخارستيا العلامة السريَّة لهذا الدَّم الَّذي سفك توثيقًا للعهد الجديد، وسوف يكون الطريق للاشتراك في محبة يسوع والاستقرار فيه؛ فهو الكرمة ونحن الأغصان، كما أنه هو الجسد ونحن الأعضاء، هو الكرمة الحقيقية، وتشترك معه في هذه الصِّفة كنيسة بأعضائها المتّحدين به. ودون هذا الاتّحاد لا نستطيع أن نعمل شيئًا: يسوع وحده، الكرمة الحق يمكنه أن يؤتي ثمرًا يمجّد الكرَّام أي الآب. وبدون الاتحاد به نصبح أغصانًا منفصلة عن الأصل، يابسة عقيمة تصلح لطرحها في النَّار؛ وتوجّه الدعوة لهذا الاتحاد إلى جميع البشر من قبل محبة الآب والابن، والدعوة مجانية لأن يسوع هو الذي يختار أغصانه أي تلاميذه، وليس هم الذين يختارونه[30]. وبفضل هذا الاتّحاد، يصبح الإنسان غصنًا في الكرمة الحقيقيّة. وإذ ينعشه الحب الذي يتحد به يسوع بأبيه يأتي بثمر، فيتمجّد الآب. وهكذا يشترك المؤمن في مسرَّة الابن، القائمة في تمجيد الآب. هذا هو سر الكرمة الحقيقيّة الذي يمثّل ما بين المسيح والكنيسة من اتّحاد خصب ومن فرح ثابت، كامل وأبدي
[1] (حزقيال 15: 2-5)
[2] (يوحنا 15: 6)
[3] (قضاة 9: 13)
[4] (مزمور 104: 15)
[5] (2 مل 25: 12
[6] (تك 9: 20)
[7] (عدد 13: 23-24، تثنية 8: 8)
[8] (تك 14: 18)
[9] (تك 19: 33)
[10] (أي 1: 18)
[11] (أم 23: 30-31)
[12] (أش 5: 11)
[13] (ميخا 4: 4)
[14] (زك 3: 10)
[15] (عاموس 5: 11)
[16] (صفنيا 1: 13)
[17] (تثنية 28: 30 و39)
[18] (يوئيل 1: 7)
[19] (1مل21: 1-16)
[20] (1 صموئيل 8: 14- 15)
[21] (ميخا 4: 4، زكريا 3: 10)
[22] (عاموس 9: 14 زكريا 8: 12)
[23] (يشوع بن سيراخ 24: 17)
[24] (مزمور 128: 3)
[25] (هوشع 10: 1، 3: 1)
[26] (إشعيا5: 1-7)
[27] (إرميا 5: 10)
[28] (مزمور 80: 9- 17)
[29] (مرقس 12: 1- 5)
[30] (يوحنا15: 16)
في معرض حديثي عن الكرمة في الكتاب المقدَّس، سأقسم بحثي هذا إلى مقدمة، ومن ثمَّ سأتحدث عن الكرمة على أنَّها فرح الإنسان، وثانيًا على أنَّ إسرائيل هو الكرمة غير الأمينة لله، وأخيرًا الكرمة الحقيقية مجد الله ومسرته
مقدِّمة
قلمّا نجد في النَّباتات ما يكون مرتبطًا في الوقت نفسه بمهارة الإنسان وبانتظام الفصول مثل الكرمة. تعلّم شعب إسرائيل كيف يستطيبون ثمار الأرض وكيف ينكبُّون على عمل مجزٍ مع الاعتماد الكليّ على سخاء العناية الإلهية. ومن جهة أخرى، فإن الكرمة النَّفيسة للغاية تنطوي على سرّ عجيب فهي تستمدّ كلّ قيمتها من ثمرها: عودها عديم الفائدة[1]، وأغصانها العقيمة لا تصلح إلا لأن تطرح في النار[2]. ولكنّ ثمرها "يسرّ الله والناس"[3]. فالكرمة تخفي إذًا سرًا أبعد عمقًا، فإنها تأتي بما يلذّ نفس الإنسان[4
أوَّلاً: الكرمة، فرح الإنسان
كانت مهنة الكرَّام تمتاز عن مهنة الفلاح[5]. أول من أُخبر عنه أنَّه غرس كرمًا هو نوح[6]بعد أن وعد الله بأن لا يعيد لعنها. ووجود الكروم على أرضنا علامة على بقاء بركة الله رغم خطيئة آدم. فالله يعد شعبه ويعطيه أرضًا جوّادة بالكروم[7]. وقد أتقن القدماء الاعتناء بالكروم ووضع ملكي صادق خبزًا وخمرًا أمام أبرام[8]. وشرب لوط خمرًا[9]. وكان أولاد أيوب يشربون الخمر[10]. وندَّد صاحب الأمثال بمن يدمن الخمر[11] وكذلك أشعياء النَّبيّ[12]، وهي للدلالة على الأمن ورغد العيشة "بل يجلسون كل واحد تحت كرمته وتحت تينته"[13] وأيضًا[14
لكنّ أولئك الذين يطأون المسكين[15] أو يخونون عهد الله[16] لن يشربوا من خمر كرومهم[17]التي يلتهمها الجراد[18] أو تصير قتادًا وشوكًا
إن الملك الذي يستولي على كروم رعاياه يقترف ظلمًا جسيمًا، وقد ارتكب آحاب[19]. هذا التَّعسُّف الَّذي تنبَّأ عنه صموئيل[20]. ولكن في عهد الملوك الصَّالحين، يعيش الجميع في سلام، كلّ بجوار كرمته وتينته، وسوف تتحقَّق هذه الصُّورة النّموذجيّة في الأزمنة المسيحانيّة[21]. حينئذ تكون الكرمة مثمرة[22]. وترمز الكرمة المنبتة إلى الحكمة[23] وإلى زوجة البار الخصبة[24]، كما أنها ترمز إلى أمل الزَّوجين اللذين يتغنيان بسرِّ الحبّ في نشيد الأناشيد
ثانيًا: إسرائيل، الكرمة غير الأمينة لله
إن إله إسرائيل، كزوج وكرّام، له كرمته، وهي شعبه. يرى هوشع في إسرائيل كرمة خصيبة يرجع فضل خصبها إلى "آلهة غير يهوه، هذا الإله الذي، بحكم عهد موسى أصبح زوجًا له[25]. وبالنسبة لأشعيا يحب الله كرمته، وقد صنع من أجلها كل ما يمكن عمله، ولكن بدلاً من ثمر العدل الذي كان ينتظره، لم تنتج إلا الأقطاف وسفك الدَّم، فسوف يسلِّمها للنَّاهبين[26]. ويرى إرميا في إسرائيل غرسًا مختارًا، قد تحوّل إلى غرس أجنبي عقيم، سوف تنزع أغصانها وتداس تحت الأقدام[27] وأخيرًا نرى حزقيال يشبّه، تارة إسرائيل الخائن لربه، وتارة الملك الحانث بعهده، بالكرمة الخصبة الَّتي سرعان ما تجف وتحترق وسوف يأتي يوم، تزدهر فيه الكرمة بفضل حراسة الله الساهرة، لذلك يلجأ إسرائيل إلى الوفاء نحو محبَّة الله، كي ينقذ هذه الكرمة التي نقل غرسها من مصر إلى أرضه، والتي اضطرّ إلى تسليمها للدَّمار والنَّار! إنها سوف تكون وفية له من الآن فصاعدًا[28
يرجع يسوع إلى مثل أشعيا ويوجز تاريخ الشعب المختار: إن الله توقَّف عن انتظار ثمار كرمته، ولكن بدلاً من الاستماع إلى الأنبياء الذين أرسلهم، أساء الكرّامون معاملتهم[29]، وفي قمّة الحب يرسل أخيرًا ابنه الحبيب، ومقابل هذا الحب، يبلغ رؤساء الشَّعب قمَّة الخيانة بقتلهم الابن الَّذي يؤول إليه ميراث الكرمة. لذلك سوف ينزل العقاب على المذنبين إلا أن موت الابن سيفتح مرحلة جديدة في تدبير الله، حينئذ تسلم الكرمة لكرّامين أمناء، سوف يؤدُّون له الثَّمر في أوانه
ثالثًا: الكرمة الحقيقيَّة، مجد الله ومسرَّته
ما لم يستطع إسرائيل أن يعطيه لله يعطيه يسوع له، فهو الكرمة المثمرة والكرمة الأصيلة الجديرة بهذه التَّسمية، فهو إسرائيل الحقيقي، وقد غرسه أبوه وأحاطه بكل عناية وقضبه، حتى يأتي بثمر وفير، وهو يؤتي ثمره فعلاً بالتَّضحية بحياته، بسفك دمه كأقصى دليل على الحبّ. وستصبح ثمرة الكرمة في سرِّ الأفخارستيا العلامة السريَّة لهذا الدَّم الَّذي سفك توثيقًا للعهد الجديد، وسوف يكون الطريق للاشتراك في محبة يسوع والاستقرار فيه؛ فهو الكرمة ونحن الأغصان، كما أنه هو الجسد ونحن الأعضاء، هو الكرمة الحقيقية، وتشترك معه في هذه الصِّفة كنيسة بأعضائها المتّحدين به. ودون هذا الاتّحاد لا نستطيع أن نعمل شيئًا: يسوع وحده، الكرمة الحق يمكنه أن يؤتي ثمرًا يمجّد الكرَّام أي الآب. وبدون الاتحاد به نصبح أغصانًا منفصلة عن الأصل، يابسة عقيمة تصلح لطرحها في النَّار؛ وتوجّه الدعوة لهذا الاتحاد إلى جميع البشر من قبل محبة الآب والابن، والدعوة مجانية لأن يسوع هو الذي يختار أغصانه أي تلاميذه، وليس هم الذين يختارونه[30]. وبفضل هذا الاتّحاد، يصبح الإنسان غصنًا في الكرمة الحقيقيّة. وإذ ينعشه الحب الذي يتحد به يسوع بأبيه يأتي بثمر، فيتمجّد الآب. وهكذا يشترك المؤمن في مسرَّة الابن، القائمة في تمجيد الآب. هذا هو سر الكرمة الحقيقيّة الذي يمثّل ما بين المسيح والكنيسة من اتّحاد خصب ومن فرح ثابت، كامل وأبدي
[1] (حزقيال 15: 2-5)
[2] (يوحنا 15: 6)
[3] (قضاة 9: 13)
[4] (مزمور 104: 15)
[5] (2 مل 25: 12
[6] (تك 9: 20)
[7] (عدد 13: 23-24، تثنية 8: 8)
[8] (تك 14: 18)
[9] (تك 19: 33)
[10] (أي 1: 18)
[11] (أم 23: 30-31)
[12] (أش 5: 11)
[13] (ميخا 4: 4)
[14] (زك 3: 10)
[15] (عاموس 5: 11)
[16] (صفنيا 1: 13)
[17] (تثنية 28: 30 و39)
[18] (يوئيل 1: 7)
[19] (1مل21: 1-16)
[20] (1 صموئيل 8: 14- 15)
[21] (ميخا 4: 4، زكريا 3: 10)
[22] (عاموس 9: 14 زكريا 8: 12)
[23] (يشوع بن سيراخ 24: 17)
[24] (مزمور 128: 3)
[25] (هوشع 10: 1، 3: 1)
[26] (إشعيا5: 1-7)
[27] (إرميا 5: 10)
[28] (مزمور 80: 9- 17)
[29] (مرقس 12: 1- 5)
[30] (يوحنا15: 16)