المنّ النَّازل من السَّماء وجسد المسيح يسوع بحسب إنجيل يوحنَّا
توطئة
سأقوم بدراستي هذه بمعالجة موضوع المنّ النَّازل من السَّماء وارتباطه بجسد المسيح، في القسم الأوَّل سأشرح معنى المنّ، وفي القسم الثَّاني سأشرح موضوع جسد المسيح بحسب إنجيل يوحنَّا في الفصل السَّادس الَّذي يتناول فيه خطاب خبز الحياة، وفي القسم الثَّالث سأتناول المواضيع الأساسيَّة الَّتي تربط المنّ بجسد المسيح، فخاتمة
مقدِّمة
إنَّ الفصل السَّادس من يوحنَّا يشكِّل أطول نصّ إفخارستيّ في العهد الجديد، ويُقدِّم لنا لاهوتًا متكاملاً عن القربان المقدَّس؛ لكن يبقى أن نعرف أنَّ نشاط يسوع الفدائيّ يتجاوز إطار الإفخارستيَّا ولا يرتبط ربطًا مطلقًا بهذا الطَّقس الأسراريّ. إنَّ فكرة الحياة هي في أساس اللاهوت اليوحنَّاويّ كلّه، هكذا انتظر اليهود الأتقياء من الله، في زمن المسيح، لا حياة طويلة وسعيدة على الأرض وحسب، بل أجر أعمالهم الحسنة في الحياة الأبديَّة حيث يدخلها الخلاصُ المسيحانيّ، ولكن ليس من نصّ في العهد القديم يشرح مثل الإنجيل الرَّابع كيف أنَّ المسيح يهب الحياة الأبديَّة، وكيف أنَّ هذه الحياة تشكِّل أسمى العطايا المسيحانيَّة
القسم الأوَّل: تعريف المنّ
المَنّ: إسم عبريّ معناه "ما هو هذا؟" أو "هبة" وهي مادة أنزلها الله على بني إسرائيل كأُعجوبة مدَّة إقامتهم في البريَّة قامت عندهم مقام الخبز وقد سُمِّيَت "خبزاً من السَّماء"[1]، فقد كان ينزل يومًا فيومًا مدَّة أربعين سنة ما عدا أيَّام السَّبت، إذ ما كان يُحفظ منه من اليوم السَّادس إلى اليوم السَّابع كان يبقى جيِّدًا صالحًا للأكل بخلاف ما كان يُحفظ من يوم إلى آخر من أيَّام الأُسبوع فإنَّهُ كان يفسد ويتولَّد فيه الدُّود
المنّ هو كبزرة الكزبرة أبيض ومَنظَرُه مَنظَر المُقْل، وطعمه كَطَعْمِ قطائِفَ بِزيت[2]. وتذكارًا لهذه العجيبة أمر موسى بأن يُعمل قسط من ذهب يسع عمرًا ومقداره لتران وثلاثة أعشار اللتر ويُحفظ فيه شيء من المنّ[3]، وكان هذا العمر محفوظًا في التَّابوت أو بقربه لكي يرى أولادهم القوت الَّذي أنزله الله عليهم مدَّة رحلاتهم الطَّويلة في البريَّة
حَسَبَ المسيح المنّ رمزًا إلى ذاته لأنَّه هو الخبز الحيّ النَّازل من السَّماء وبذلك أثبت كونه طعامًا عجيبًا[4]. وسُمِّيَ المنّ "برُّ السَّماء" "وخبز الملائكة"[5]، إشارة إلى أنَّه أُعطي على سبيل أعجُوبة؛ أمَّا "المنّ الخفيّ"[6]، فيُشير إلى القوت السِّريّ الَّذي يعطيه المسيح للمؤمن ولا يُعطى إلاَّ له
هناك ارتباط وثيق بين المنّ والتَّجربة في البريَّة؛ فالشَّعب أمام الظُّروف الحرجة الَّتي تواجهه في البريَّة، يضع الله في موضع الامتحان حول وجود الرَّب في وسطهم أم لا[7]، فيجيبهم الرَّب بإظهار مجده؛ فبوسيلة العيش هذه، يشير إلى حضوره الفعَّال بينهم، وكان لهذه العلامة من التَّأثير ما جعل الشَّعب يحتفظ بإناء مملوء من المنّ بجوار لوحَيّ الشَّريعة في تابوت العهد للذِّكرى الدَّائمة
هناك ارتباط بين المنّ والانتظار الاسكاتولوجيّ؛ فعندما أخذ إسرائيل بتأمُّل ماضيه أثناء الصَّلاة في حضرة الله، بدأ يشيد بعطيَّة المنّ[8]؛ ففي مديح هذه العطِيَّة المعجزة، يتبارون في إيجاد الصِّفات الَّتي لا بُدَّ أن يحتويها هذا الطَّعام السَّماويّ، الَّذي سيمنحه الخالق لبنيه في الوليمة الاسكاتولوجيَّة، وعندما يذوقون طعمه، سيزدادون في تذوّق عذوبة الخالق الَّذي يُسَخِّر الخليقة في خدمة المؤمنين به[9
القسم الثَّاني: جسد المسيح بحسب إنجيل يوحنَّا
يُشكِّل الفصل السَّادس من إنجيل يوحنَّا شميلة لرسالة يسوع ووحيًا عميقًا عنه؛ فتفرَّد يوحنا بذكر الفصح (6: 4) فإنَّه لايهتمّ بالتَّحديد الكرونولوجيّ، بل يريد أن يلمِّح إلى الخروج من مصر وإلى معجزة المنّ، علمًا بأنَّ يوحنَّا يُقحم وحي يسوع في إطار الأعياد الليترجيَّة الكبرى: الفصح، المظالّ، التَّدشين، فيسوع يتمِّم ويتجاوز في الوقت عينه ما تعلنه هذه الأعياد وتبيِّنه
يوحنَّا يذكر مبادرة لفت النَّظر إلى الجموع تعود كلّها إلى يسوع، فهو يهتمّ بإطعامهم، وقد طرح السُّؤال على فيلبُّس ليُبرز عجز الإنسان عن فهم المشكلة وإيجاد الحلّ لها؛ وتُشير الآية 5 إشارة خفيَّة إلى (عد11: 13)[10] فالتَّذكير بالمراحل الَّتي قطعها شعب إسرائيل عبر بريَّة الخروج، يظهر هنا بوضوح، لا سيَّما وأنَّنا نجد في كلّ الفصل السَّادس إشارات إلى (عد11: 1
نجد في إنجيل يوحنَّا، أنَّ يسوع هو نفسه الَّذي يُوزِّع الطَّعام؛ وهناك إشارات عديدة تُعطي الخبر لونًا إفخارستيًّا، ففعلة يسوع الَّذي أخذ الأرغفة ووزَّعها (آ11)، تُلمِّح إلى العشاء الأخير؛ لا شكَّ في أنَّ يوحنَّا لا يروي خبر تأسيس الافخارستيَّا، ولكن الفعل وزَّع ( (Dιεδωκενمأخوذ من الطَّقس الإفخارستيّ، ونقول الشِّيء عينه عن فعل شُكر (Eυχαριστησας)
تدعونا هذه الآيات لنقرِّب تكثير الخبز من معجزات مشابهة في العهد القديم: معجزة المنّ[11]، ومعجزة أليشاع[12]. فالمقابلة تُبرز الفيض والوفرة في المعجزة الَّتي اجترحها يسوع، فبعد أن أكلوا كلّهم وشبعوا، أمر يسوع أن يجمعوا ما فضل، فملأوا اثنتي عشرة قفَّة. نحن هنا أمام أجزاء وليس فتات ولا بقايا، فالمنّ في سفر الخروج[13] كان يَفسُد، أمَّا بقايا الطَّعام فلم تفسد بل جُمعت لئلاَّ يضيع منها شيء، أمَّا بالنِّسبة إلى العدد 12 (12 قفَّة) هو عدد كامل ويعني الملء؛ فالخبز الَّذي يعطيه يسوع، الخبز المسيحانيّ لا يكفي لإعالة خمسة آلاف شخص فقط، بل لإعالة البشريَّة كلّها
إنتظر اليهود للزَّمن المسيحانيّ تجديد معجزة المنّ؛ لهذا حين كثَّر يسوع الخبز، رأت فيه الجموع النَّبيّ الآتي إلى العالم فأرادت أن تختطفه وتجعله ملكًا، ولكنّ يسوع هرب من جديد إلى الجبل لأنَّ حماس الشَّعب عابر ومؤقَّت، إذ لم يرَوا في المعجزة هذه آية تدلّ على أنَّ يسوع هو المسيح الحقيقيّ بل تثبيتًا لفكرة مسبقة وخاطئة كوَّنوها عنه؛ فما يهمّ هو الخبز وليس المسيح الَّذي يعطي الخبز، لهذا تهرَّب يسوع
القسم الثَّالث: المواضيع الرَّئيسيَّة لخطاب خبز الحياة
أوَّلاً: الآيات تخبرنا عن يسوع
نلاحظ أنَّ خبر يوحنَّا يُركِّز الانتباه على يسوع، فهدف المعجزة أن تُخبرنا عن يسوع وليس أن تُطعم الجموع، لأنَّ الآيات الواردة بإنجيل يوحنَّا تُخبرنا عن مجد يسوع، أي عن اتِّحاده بالآب، وعن أهميَّة شخصه وأعماله من أجل الخلاص؛ إنَّ يسوع يرغب في أن نطلبه بصدق، فالفعل "طلب" مهمّ جدًّا في هذا الفصل وفي الإنجيل الرَّابع كلِّه، فَطَلَبَ الجليليُّون خبزهم ولم يطلبوا خبز الله؛ من هنا نتعلَّم أنَّ من يطلب ذاته لا يقدر على قراءة الآية الَّتي تخبر عن يسوع، ولا يقدر على الانفتاح على الإيمان
ثانيًا: التَّحقيق النِّهائيّ والإسكاتولوجيّ لمخطَّطِ الله
يشدِّد يوحنَّا بالأحرى على التَّحقيق النّهائيّ والاسكاتولوجيّ لمخطَّط الله؛ فهو يتحدَّث عن تحقيق جديد وغير منتظر، لهذا أدهش تصرُّف يسوع الجموع والفريسيِّين بما قدَّمه من جديد، يوم كانت هذه الجدّة علامة أمانة الله العميقة لمواعيده؛ فإذا أردنا أن نتقبَّل المسيح ونقرأ آياته وجب علينا أن نستعدّ لما هو جديد، لما يدهشنا
ثالثًا: الطَّعام الَّذي يقدّمه يسوع وذاك الَّذي ينتظره البشر
نفهم ممَّا تقدَّم العلاقة بين الطَّعام الَّذي يقدّمه يسوع أي الخلاص، والَّذي يطلبه البشر أي موضوع رجائهم؛ حين تحدَّث يسوع عن الخلاص، استعمل كلمة (حياة)؛ فالحياة الَّتي يقدّمها يسوع ويدلّ عليها الخبز هي إلهيَّة، لأنَّها عطيَّة الله، وأيضًا خاصَّة اتحاد بحياة الله نفسه؛ وهكذا يكفي لأن يفهمنا لماذا يقف يسوع في قلب الخبر، ولماذا يُمسك المبادرة دومًا، فهذه الحياة لا تأتي إلاَّ منه، لأنَّها اتِّحاد بشخصه؛ واهتمَّ يوحنَّا أيضًا بأن يُذكِّر الإنسان بعجزه الجذريّ، فالله وحده يقدر أن يُشبع هذا الجمع الكبير؛ ومن هنا يبرز الإيمان فهو انفتاح على الله، على الرَّجاء
أعمال الله هي في نظر اليهود أعمال خارجيَّة وعباديَّة يطلبها الله من عابديه، أمَّا يسوع فلا يتكلَّم إلاَّ عن عمل واحد هو الإيمان بالَّذي أرسله الله؛ فالمؤمن الحقيقيّ يعي فقره وعوزه، حين يمرّ يسوع في حياته، لا يقبل أن ينجو من الظّلمة إلاَّ به؛ ولكن هذه الثِّقة بالمسيح إلى حدِّ تبديل حياتنا واتِّباعه، هي عمل الله لا عمل الإنسان
رابعًا: الآب يُعطي، يجتذب، يُعلِّم
تبدو حياة الإيمان وكأنَّها ثمرة نعمة نعبِّر عنها بثلاثة أشكال: يُعطيها الآب ليسوع، يجتذبنا الآب إلى يسوع، ومن ثمَّ يُعلِّمنا الله؛ فالرُّسل كانوا يخصُّون الآب ويخدمونه، كانوا من أبنائه، ولكن الآب أعطاهم لابنه، وجعلهم يتجاوبون مع نداءاته؛ وعلى المستوى الرُّوحيّ نعرف أنَّ الآب يجتذب النَّاس إلى المسيح لأنَّه يُعطي، يَجتذب، ويعلِّم؛ مدلولات ثلاثة في فكرة واحدة، والفعلان الأخيران يشدِّدان على عمل الآب، أمَّا الفعل الأوَّل فيجعلنا نستشفّ النَّتيجة أي الانتماء إلى المسيح، وامتلاك الحياة الأبديَّة، وفي أيّ حال، ليس الإيمان بالمسيح في يد الإنسان، فهو لا يقدر إلاَّ أن يتجاوب مع النِّعمة المعطاة له مع إمكانيَّة رفضها
خامسًا: متطلِّبات متنامية
هناك خطأ كامن وراء طلبهم، عندما يعتبرون أنَّ دور الآيات الخارجيَّة أوَّليّ لكي يؤمنوا بيسوع، مع أنَّه لا شكَّ في أنَّ هذه الآيات تقود إلى عتبة الإيمان الأولى، وإذا ارتبط الإيمان بأسباب عقلانيَّة، فهو لن يذهب أبعد من العقل، ولن يذهب بالتَّالي بعيدًا ثمَّ أنَّ الإيمان يبقى معرَّضًا لمدِّ التَّقلُّبات وجزرها
سادسًا: الخبز الحقيقيّ، والمنّ الَّذي يعطي الحياة الأبديَّة
لا نكتشف قوَّة التَّعبير في لفظة حقيقيّ إلاَّ في إطار السِّر الموحى به، ويقابلها في ظلمة الوجدان جواب الإيمان، فالخبز الحقيقيّ ليس طعامًا أرضيًّا، نزل من السَّماء لا كالمنّ من الفلك، بل من علاء الله، فهو من يعطي الحياة الأبديَّة، هذا هو الخبز الحقيقيّ الَّذي يُعطيه الآب: "هكذا أحب الله العالم حتَّى وهب ابنه الوحيد، فلا يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديَّة"[14]، إنَّ المنّ لا يحمي من الموت: "آباؤكم أكلوا المنَّ في البريَّة وماتوا" (آ49). ولكنَّ يسوع هو من العلاء فهو يُعطى كطعام للخلود (آ50-51
إنَّ يسوع ظهر أعظم من موسى، بإرادته كثَّر الخبز والسَّمك، أمَّا موسى فقد أسرَّ الله إليه بما يفعله من أجل القبائل الجائعة[15]، ثمَّ إننا أمام آية عن الكلمة الّّتي وصلت إلى كمالها في الوحي النِّهائيّ، وعن الإفخارستيَّا؛ فالكلمة لا تنفصل عن الإفخارستَّيا، وكلتاهما تتوجَّهان إلى الحياة الأبديَّة
سابعًا: أنا خبز الحياة
إنَّ التَّعبير "أنا هو" المحفوظ لله العليّ في التوراة، يُستعمل أيضًا في مقاطع أخرى من الإنجيل يسمِّي يسوع فيها نفسه "نور العالم"، و"باب الخراف"، و"الرَّاعي الصَّالح"، و"القيامة والحياة" و"الكرمة الحقّ". هكذا يماثل يسوع بين نفسه وبين خبز الحياة، الخبز الحيّ، الَّذي نزل من الأعالي الإلهيَّة والَّذي يُعطي الحياة للعالم لأنَّه الوحيد الَّذي أرسله الآب في سرِّ التَّجسُّد، بهدف تعريف النَّاس إلى الآب كاشفًا عن ذاته، وحين نؤمن به، لا نقبل كلماته فقط، بل نشاركه في حياته
يسوع نفسه، بقوله لأخت لعازر: "أنا هو القيامة والحياة، من يؤمن بي، وإن مات، يحيا ومن يحيا مؤمنًا بي لن يموت أبدًا". إلى هذا التَّعليم يعود يوحنَّا (آ27) "وهذا ما يريده أبي: أن كلَّ من رأى الابن وآمن به نال الحياة الأبديَّة، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير" (آ40)، "هذا هو الخبز النَّازل من السَّماء، لا المنّ الَّذي أكله آباؤكم ثمَّ ماتوا. من أكل هذا الخبز يحيا إلى الأبد" (آ58
إنَّ هذه الحياة الأبديَّة ستُعطى ساعة القيامة، والحياة الَّتي وعد بها يسوع الَّذين يأكلون المنّ السَّماويّ، ليست بحصر المعنى حياة النِّعمة على هذه الأرض، بل الحياة بعد الموت كما ترجَّاها اليهود، إذ لا يقول لنا النَّص أنَّ يسوع جاء لينقل إلى العالم حياة إلهيَّة يحياها؛ إنَّ مهمَّته أن يحمل الحياة الأبديَّة، وهذه الحياة ليست إلاَّ خلاص العالم الآتي؛ ولقد فهم أغناطيوس الأنطاكيّ فهمًا تامًّا يوحنَّا الفصل السَّادس حين سمَّى الإفخارستيَّا: "الدَّواء الَّذي يهب الخلود".كلّ شيء متماسك في هذا الفصل الإنجيليّ. ينطلق يسوع من معجزة ماديَّة وبعض مدلولات وصُوَر بيبليَّة يعمِّقها ويُروحنها، فيكشف أنَّه المسيح الحقيقيّ الَّّذي يحمل إلينا الخلاص الأبديّ، لأنَّه يأتي من السَّماء "ويحيا بالآب"(آ57
ثامنًا: يسوع، خبز الحياة في الإفخارستيَّا
إنَّ قمَّة خطبة الحياة هي في الخاتمة الإفخارستيَّة، فإذا كان يسوع هو خبز الحياة في كلّ ما يفعل، فهو أيضًا كذلك صورة مميَّزة في سرِّ الإفخارستيَّا، بعد هذا تُصبح الإفخارستيَّا سرّ وحدة المؤمن بالمسيح، "من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه" (آ56)؛ وليس من قبيل الصُّدف أن ترد العبارة اليوحنَّاويَّة في الفصل الخامس عشر، حيث صورة الكرمة تدلّ على السِّر الإفخارستيّ، وفي أيِّ حال، معنى العبارة واضح: إنَّه يدلّ على الرِّباط الوثيق والوحيد بين المسيح والمؤمن، فالمسيح يتَّحد اتِّحادًا وثيقًا بتلاميذه بحيث تقابل هذه الوحدة بوحدة الابن مع الآب: "أُثبتوا في محبَّتي... كما أنا أحفظ وصايا أبي وأنا ثابت في محبَّته"[16
إنَّ هذه الوحدة لا تتحقَّق بصورة آليَّة، إذ يجب على الإنسان أن يلتصق بمخلِّصه بكل قلبه وكلِّ حريَّته، عليه أن يؤمن، ومدلول الإيمان هو في قلب تعليم يوحنَّا كما في قلب تعليم بولس: كلّ الإنجيل موجَّه إلى الإيمان وإلى الإيمان يعود نشاط الإنسان الدِّينيّ كما إلى جوهره الأساسيّ
إذن، لماذا نعجب إن كان المسيح يُعطي في علامة منظورة "جسده" (لحمه)، ليؤكل (آ25) ودمه ليُشرب؟ فالمناولة الإفخارستيَّة الَّتي هي رمز فاعل للحياة الَّتي يحملها الابن، تبدو ضروريَّة للمسيحيّ كما الإيمان، "إن كنتم لا تأكلون جسد (لحم) ابن الإنسان ولا تشربون دمه، فلن تكون فيكم الحياة (آ53
في هذه الحياة الأسراريَّة يعبِّر الإيمان عن نفسه ويتغذَّى: فالنِّعمة الإفخارستيَّة هي في الوقت عينه سبب ونتيجة تعلّقنا الإيمانيّ، وفي الإفخارستيَّا تتحقَّق وتتأوَّن المواعيد المسيحانيَّة من أجلنا، ليست الإفخارستيا فقط تذكيرًا بالماضي، بل هي في الوقت عينه، وبصورة خاصَّة حضور ناشط للمخلِّص نفسه، فالمسيح هو المنّ الحقيقيّ لا في الصُّورة فحسب، بل في الحقّ
خاتمة
إنَّ المنّ الحقيقيّ النَّازل من السَّماء ليس هو المنّ الَّذي لم يمنع آكليه من الموت، بل هو يسوع نفسه (آ32- 33)، الَّذي يقبله المرء بالإيمان (آ35- 50)، هو جسده الذي يبذله ليحيا به العالم (آ51-58
يبدو لنا لاهوت يوحنَّا في الإفخارستيَّا متماسكًا وعميقًا، ولكن لاننسى أن وجه الإفخارستيَّا متعدِّد على مثال وجه المسيح نفسه، وإذا أراد العهد الجديد أن يعبِّر عن سرِّ فدائنا، عاد إلى كريستولوجِيَّات عديدة. ثمَّ إنَّ غنى هذا السِّر المركزيّ يتجسَّد في طقوس وأعياد ليتورجيَّة عديدة، فصورة المنّ السَّماويّ لا تتعارض وسائر ألقاب المسيح الكريستولوجيَّة، بل تُعيدنا إلى هذه الألقاب وتأخذ كامل معناها ومضمونها على ضوء هذه الألقاب
تُساعدنا المعارضة بين الطَّعام الماديّ وبين الطَّعام الرُّوحيّ أن نفهم من هو المسيح يسوع، فكما أنَّه استطاع بفضل معجزة أن يُعطي الشَّعب طعامًا مادِّيًّا، فهو يقدر أيضًا أن يُعطي الجميع الطَّعام الرُّوحيّ، فيسوع هو الآتي من العلاء "الكلمة صار بشرًا" نزل إلى عالم الأرض حيث نصب خيمته، وتلفَّظ بكلمة تهب الحياة والإيمان والقيامة، وبذل جسده من أجل حياة العالم، أرسله الآب من أجل الجميع، فلا يلتقيه إلاَّ من يقبل اجتذاب الله وتعليمه وعطيَّته، إلاَّ من يخضع لابنه المعلِّم الَّذي يضع خطواتنا في الطَّريق إليه
لائحة بالمراجع
1) عبد الله بطرس (الدّكتور)، 1971. قاموس الكتاب المقدَّس، بيروت: مجمع الكنائس في الشَّرق الأدنى
2) كسافييه ليون دوفور، 1986.ط2: معجم اللاهوت الكتابي، دار المشرق: لبنان
3) الفغالي بولس (الخوري)، 2003، ط1: المحيط الجامع في الكتاب المقدَّس والشَّرق القديم، المكتبة البولسيَّة:جونية
4) الفغالي بولس (الخوري)، 1992، إنجيل يوحنَّا دراسات وتأمُّلات، جونية: منشورات الرَّابطة الكتابيَّة، ج2
[1] (خر 16: 4)
[2] (عد 11: 7 و 8)
[3] (خر 16: وعب 9: 4)
[4] (يو 6: 29 - 51)
[5] (مز 78: 24 و 25)
[6] (رؤ 2: 17)
[7] (خر 17: 7)
[8] (مز 78: 23- 25، 105: 40، نح 9: 15)
[9] (حك 16: 20- 21 و25- 26)
[10] "من أين لي لحم أُعطيه لجميع هؤلاء؟"
[11] (عد11: 22؛ خر16: 16)
[12] (2مل4: 42-44)
[13] (خر16: 20)
[14] (يو3: 16)
[15] (خر16: 4)
[16] (يو10: 15)
سأقوم بدراستي هذه بمعالجة موضوع المنّ النَّازل من السَّماء وارتباطه بجسد المسيح، في القسم الأوَّل سأشرح معنى المنّ، وفي القسم الثَّاني سأشرح موضوع جسد المسيح بحسب إنجيل يوحنَّا في الفصل السَّادس الَّذي يتناول فيه خطاب خبز الحياة، وفي القسم الثَّالث سأتناول المواضيع الأساسيَّة الَّتي تربط المنّ بجسد المسيح، فخاتمة
مقدِّمة
إنَّ الفصل السَّادس من يوحنَّا يشكِّل أطول نصّ إفخارستيّ في العهد الجديد، ويُقدِّم لنا لاهوتًا متكاملاً عن القربان المقدَّس؛ لكن يبقى أن نعرف أنَّ نشاط يسوع الفدائيّ يتجاوز إطار الإفخارستيَّا ولا يرتبط ربطًا مطلقًا بهذا الطَّقس الأسراريّ. إنَّ فكرة الحياة هي في أساس اللاهوت اليوحنَّاويّ كلّه، هكذا انتظر اليهود الأتقياء من الله، في زمن المسيح، لا حياة طويلة وسعيدة على الأرض وحسب، بل أجر أعمالهم الحسنة في الحياة الأبديَّة حيث يدخلها الخلاصُ المسيحانيّ، ولكن ليس من نصّ في العهد القديم يشرح مثل الإنجيل الرَّابع كيف أنَّ المسيح يهب الحياة الأبديَّة، وكيف أنَّ هذه الحياة تشكِّل أسمى العطايا المسيحانيَّة
القسم الأوَّل: تعريف المنّ
المَنّ: إسم عبريّ معناه "ما هو هذا؟" أو "هبة" وهي مادة أنزلها الله على بني إسرائيل كأُعجوبة مدَّة إقامتهم في البريَّة قامت عندهم مقام الخبز وقد سُمِّيَت "خبزاً من السَّماء"[1]، فقد كان ينزل يومًا فيومًا مدَّة أربعين سنة ما عدا أيَّام السَّبت، إذ ما كان يُحفظ منه من اليوم السَّادس إلى اليوم السَّابع كان يبقى جيِّدًا صالحًا للأكل بخلاف ما كان يُحفظ من يوم إلى آخر من أيَّام الأُسبوع فإنَّهُ كان يفسد ويتولَّد فيه الدُّود
المنّ هو كبزرة الكزبرة أبيض ومَنظَرُه مَنظَر المُقْل، وطعمه كَطَعْمِ قطائِفَ بِزيت[2]. وتذكارًا لهذه العجيبة أمر موسى بأن يُعمل قسط من ذهب يسع عمرًا ومقداره لتران وثلاثة أعشار اللتر ويُحفظ فيه شيء من المنّ[3]، وكان هذا العمر محفوظًا في التَّابوت أو بقربه لكي يرى أولادهم القوت الَّذي أنزله الله عليهم مدَّة رحلاتهم الطَّويلة في البريَّة
حَسَبَ المسيح المنّ رمزًا إلى ذاته لأنَّه هو الخبز الحيّ النَّازل من السَّماء وبذلك أثبت كونه طعامًا عجيبًا[4]. وسُمِّيَ المنّ "برُّ السَّماء" "وخبز الملائكة"[5]، إشارة إلى أنَّه أُعطي على سبيل أعجُوبة؛ أمَّا "المنّ الخفيّ"[6]، فيُشير إلى القوت السِّريّ الَّذي يعطيه المسيح للمؤمن ولا يُعطى إلاَّ له
هناك ارتباط وثيق بين المنّ والتَّجربة في البريَّة؛ فالشَّعب أمام الظُّروف الحرجة الَّتي تواجهه في البريَّة، يضع الله في موضع الامتحان حول وجود الرَّب في وسطهم أم لا[7]، فيجيبهم الرَّب بإظهار مجده؛ فبوسيلة العيش هذه، يشير إلى حضوره الفعَّال بينهم، وكان لهذه العلامة من التَّأثير ما جعل الشَّعب يحتفظ بإناء مملوء من المنّ بجوار لوحَيّ الشَّريعة في تابوت العهد للذِّكرى الدَّائمة
هناك ارتباط بين المنّ والانتظار الاسكاتولوجيّ؛ فعندما أخذ إسرائيل بتأمُّل ماضيه أثناء الصَّلاة في حضرة الله، بدأ يشيد بعطيَّة المنّ[8]؛ ففي مديح هذه العطِيَّة المعجزة، يتبارون في إيجاد الصِّفات الَّتي لا بُدَّ أن يحتويها هذا الطَّعام السَّماويّ، الَّذي سيمنحه الخالق لبنيه في الوليمة الاسكاتولوجيَّة، وعندما يذوقون طعمه، سيزدادون في تذوّق عذوبة الخالق الَّذي يُسَخِّر الخليقة في خدمة المؤمنين به[9
القسم الثَّاني: جسد المسيح بحسب إنجيل يوحنَّا
يُشكِّل الفصل السَّادس من إنجيل يوحنَّا شميلة لرسالة يسوع ووحيًا عميقًا عنه؛ فتفرَّد يوحنا بذكر الفصح (6: 4) فإنَّه لايهتمّ بالتَّحديد الكرونولوجيّ، بل يريد أن يلمِّح إلى الخروج من مصر وإلى معجزة المنّ، علمًا بأنَّ يوحنَّا يُقحم وحي يسوع في إطار الأعياد الليترجيَّة الكبرى: الفصح، المظالّ، التَّدشين، فيسوع يتمِّم ويتجاوز في الوقت عينه ما تعلنه هذه الأعياد وتبيِّنه
يوحنَّا يذكر مبادرة لفت النَّظر إلى الجموع تعود كلّها إلى يسوع، فهو يهتمّ بإطعامهم، وقد طرح السُّؤال على فيلبُّس ليُبرز عجز الإنسان عن فهم المشكلة وإيجاد الحلّ لها؛ وتُشير الآية 5 إشارة خفيَّة إلى (عد11: 13)[10] فالتَّذكير بالمراحل الَّتي قطعها شعب إسرائيل عبر بريَّة الخروج، يظهر هنا بوضوح، لا سيَّما وأنَّنا نجد في كلّ الفصل السَّادس إشارات إلى (عد11: 1
نجد في إنجيل يوحنَّا، أنَّ يسوع هو نفسه الَّذي يُوزِّع الطَّعام؛ وهناك إشارات عديدة تُعطي الخبر لونًا إفخارستيًّا، ففعلة يسوع الَّذي أخذ الأرغفة ووزَّعها (آ11)، تُلمِّح إلى العشاء الأخير؛ لا شكَّ في أنَّ يوحنَّا لا يروي خبر تأسيس الافخارستيَّا، ولكن الفعل وزَّع ( (Dιεδωκενمأخوذ من الطَّقس الإفخارستيّ، ونقول الشِّيء عينه عن فعل شُكر (Eυχαριστησας)
تدعونا هذه الآيات لنقرِّب تكثير الخبز من معجزات مشابهة في العهد القديم: معجزة المنّ[11]، ومعجزة أليشاع[12]. فالمقابلة تُبرز الفيض والوفرة في المعجزة الَّتي اجترحها يسوع، فبعد أن أكلوا كلّهم وشبعوا، أمر يسوع أن يجمعوا ما فضل، فملأوا اثنتي عشرة قفَّة. نحن هنا أمام أجزاء وليس فتات ولا بقايا، فالمنّ في سفر الخروج[13] كان يَفسُد، أمَّا بقايا الطَّعام فلم تفسد بل جُمعت لئلاَّ يضيع منها شيء، أمَّا بالنِّسبة إلى العدد 12 (12 قفَّة) هو عدد كامل ويعني الملء؛ فالخبز الَّذي يعطيه يسوع، الخبز المسيحانيّ لا يكفي لإعالة خمسة آلاف شخص فقط، بل لإعالة البشريَّة كلّها
إنتظر اليهود للزَّمن المسيحانيّ تجديد معجزة المنّ؛ لهذا حين كثَّر يسوع الخبز، رأت فيه الجموع النَّبيّ الآتي إلى العالم فأرادت أن تختطفه وتجعله ملكًا، ولكنّ يسوع هرب من جديد إلى الجبل لأنَّ حماس الشَّعب عابر ومؤقَّت، إذ لم يرَوا في المعجزة هذه آية تدلّ على أنَّ يسوع هو المسيح الحقيقيّ بل تثبيتًا لفكرة مسبقة وخاطئة كوَّنوها عنه؛ فما يهمّ هو الخبز وليس المسيح الَّذي يعطي الخبز، لهذا تهرَّب يسوع
القسم الثَّالث: المواضيع الرَّئيسيَّة لخطاب خبز الحياة
أوَّلاً: الآيات تخبرنا عن يسوع
نلاحظ أنَّ خبر يوحنَّا يُركِّز الانتباه على يسوع، فهدف المعجزة أن تُخبرنا عن يسوع وليس أن تُطعم الجموع، لأنَّ الآيات الواردة بإنجيل يوحنَّا تُخبرنا عن مجد يسوع، أي عن اتِّحاده بالآب، وعن أهميَّة شخصه وأعماله من أجل الخلاص؛ إنَّ يسوع يرغب في أن نطلبه بصدق، فالفعل "طلب" مهمّ جدًّا في هذا الفصل وفي الإنجيل الرَّابع كلِّه، فَطَلَبَ الجليليُّون خبزهم ولم يطلبوا خبز الله؛ من هنا نتعلَّم أنَّ من يطلب ذاته لا يقدر على قراءة الآية الَّتي تخبر عن يسوع، ولا يقدر على الانفتاح على الإيمان
ثانيًا: التَّحقيق النِّهائيّ والإسكاتولوجيّ لمخطَّطِ الله
يشدِّد يوحنَّا بالأحرى على التَّحقيق النّهائيّ والاسكاتولوجيّ لمخطَّط الله؛ فهو يتحدَّث عن تحقيق جديد وغير منتظر، لهذا أدهش تصرُّف يسوع الجموع والفريسيِّين بما قدَّمه من جديد، يوم كانت هذه الجدّة علامة أمانة الله العميقة لمواعيده؛ فإذا أردنا أن نتقبَّل المسيح ونقرأ آياته وجب علينا أن نستعدّ لما هو جديد، لما يدهشنا
ثالثًا: الطَّعام الَّذي يقدّمه يسوع وذاك الَّذي ينتظره البشر
نفهم ممَّا تقدَّم العلاقة بين الطَّعام الَّذي يقدّمه يسوع أي الخلاص، والَّذي يطلبه البشر أي موضوع رجائهم؛ حين تحدَّث يسوع عن الخلاص، استعمل كلمة (حياة)؛ فالحياة الَّتي يقدّمها يسوع ويدلّ عليها الخبز هي إلهيَّة، لأنَّها عطيَّة الله، وأيضًا خاصَّة اتحاد بحياة الله نفسه؛ وهكذا يكفي لأن يفهمنا لماذا يقف يسوع في قلب الخبر، ولماذا يُمسك المبادرة دومًا، فهذه الحياة لا تأتي إلاَّ منه، لأنَّها اتِّحاد بشخصه؛ واهتمَّ يوحنَّا أيضًا بأن يُذكِّر الإنسان بعجزه الجذريّ، فالله وحده يقدر أن يُشبع هذا الجمع الكبير؛ ومن هنا يبرز الإيمان فهو انفتاح على الله، على الرَّجاء
أعمال الله هي في نظر اليهود أعمال خارجيَّة وعباديَّة يطلبها الله من عابديه، أمَّا يسوع فلا يتكلَّم إلاَّ عن عمل واحد هو الإيمان بالَّذي أرسله الله؛ فالمؤمن الحقيقيّ يعي فقره وعوزه، حين يمرّ يسوع في حياته، لا يقبل أن ينجو من الظّلمة إلاَّ به؛ ولكن هذه الثِّقة بالمسيح إلى حدِّ تبديل حياتنا واتِّباعه، هي عمل الله لا عمل الإنسان
رابعًا: الآب يُعطي، يجتذب، يُعلِّم
تبدو حياة الإيمان وكأنَّها ثمرة نعمة نعبِّر عنها بثلاثة أشكال: يُعطيها الآب ليسوع، يجتذبنا الآب إلى يسوع، ومن ثمَّ يُعلِّمنا الله؛ فالرُّسل كانوا يخصُّون الآب ويخدمونه، كانوا من أبنائه، ولكن الآب أعطاهم لابنه، وجعلهم يتجاوبون مع نداءاته؛ وعلى المستوى الرُّوحيّ نعرف أنَّ الآب يجتذب النَّاس إلى المسيح لأنَّه يُعطي، يَجتذب، ويعلِّم؛ مدلولات ثلاثة في فكرة واحدة، والفعلان الأخيران يشدِّدان على عمل الآب، أمَّا الفعل الأوَّل فيجعلنا نستشفّ النَّتيجة أي الانتماء إلى المسيح، وامتلاك الحياة الأبديَّة، وفي أيّ حال، ليس الإيمان بالمسيح في يد الإنسان، فهو لا يقدر إلاَّ أن يتجاوب مع النِّعمة المعطاة له مع إمكانيَّة رفضها
خامسًا: متطلِّبات متنامية
هناك خطأ كامن وراء طلبهم، عندما يعتبرون أنَّ دور الآيات الخارجيَّة أوَّليّ لكي يؤمنوا بيسوع، مع أنَّه لا شكَّ في أنَّ هذه الآيات تقود إلى عتبة الإيمان الأولى، وإذا ارتبط الإيمان بأسباب عقلانيَّة، فهو لن يذهب أبعد من العقل، ولن يذهب بالتَّالي بعيدًا ثمَّ أنَّ الإيمان يبقى معرَّضًا لمدِّ التَّقلُّبات وجزرها
سادسًا: الخبز الحقيقيّ، والمنّ الَّذي يعطي الحياة الأبديَّة
لا نكتشف قوَّة التَّعبير في لفظة حقيقيّ إلاَّ في إطار السِّر الموحى به، ويقابلها في ظلمة الوجدان جواب الإيمان، فالخبز الحقيقيّ ليس طعامًا أرضيًّا، نزل من السَّماء لا كالمنّ من الفلك، بل من علاء الله، فهو من يعطي الحياة الأبديَّة، هذا هو الخبز الحقيقيّ الَّذي يُعطيه الآب: "هكذا أحب الله العالم حتَّى وهب ابنه الوحيد، فلا يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديَّة"[14]، إنَّ المنّ لا يحمي من الموت: "آباؤكم أكلوا المنَّ في البريَّة وماتوا" (آ49). ولكنَّ يسوع هو من العلاء فهو يُعطى كطعام للخلود (آ50-51
إنَّ يسوع ظهر أعظم من موسى، بإرادته كثَّر الخبز والسَّمك، أمَّا موسى فقد أسرَّ الله إليه بما يفعله من أجل القبائل الجائعة[15]، ثمَّ إننا أمام آية عن الكلمة الّّتي وصلت إلى كمالها في الوحي النِّهائيّ، وعن الإفخارستيَّا؛ فالكلمة لا تنفصل عن الإفخارستَّيا، وكلتاهما تتوجَّهان إلى الحياة الأبديَّة
سابعًا: أنا خبز الحياة
إنَّ التَّعبير "أنا هو" المحفوظ لله العليّ في التوراة، يُستعمل أيضًا في مقاطع أخرى من الإنجيل يسمِّي يسوع فيها نفسه "نور العالم"، و"باب الخراف"، و"الرَّاعي الصَّالح"، و"القيامة والحياة" و"الكرمة الحقّ". هكذا يماثل يسوع بين نفسه وبين خبز الحياة، الخبز الحيّ، الَّذي نزل من الأعالي الإلهيَّة والَّذي يُعطي الحياة للعالم لأنَّه الوحيد الَّذي أرسله الآب في سرِّ التَّجسُّد، بهدف تعريف النَّاس إلى الآب كاشفًا عن ذاته، وحين نؤمن به، لا نقبل كلماته فقط، بل نشاركه في حياته
يسوع نفسه، بقوله لأخت لعازر: "أنا هو القيامة والحياة، من يؤمن بي، وإن مات، يحيا ومن يحيا مؤمنًا بي لن يموت أبدًا". إلى هذا التَّعليم يعود يوحنَّا (آ27) "وهذا ما يريده أبي: أن كلَّ من رأى الابن وآمن به نال الحياة الأبديَّة، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير" (آ40)، "هذا هو الخبز النَّازل من السَّماء، لا المنّ الَّذي أكله آباؤكم ثمَّ ماتوا. من أكل هذا الخبز يحيا إلى الأبد" (آ58
إنَّ هذه الحياة الأبديَّة ستُعطى ساعة القيامة، والحياة الَّتي وعد بها يسوع الَّذين يأكلون المنّ السَّماويّ، ليست بحصر المعنى حياة النِّعمة على هذه الأرض، بل الحياة بعد الموت كما ترجَّاها اليهود، إذ لا يقول لنا النَّص أنَّ يسوع جاء لينقل إلى العالم حياة إلهيَّة يحياها؛ إنَّ مهمَّته أن يحمل الحياة الأبديَّة، وهذه الحياة ليست إلاَّ خلاص العالم الآتي؛ ولقد فهم أغناطيوس الأنطاكيّ فهمًا تامًّا يوحنَّا الفصل السَّادس حين سمَّى الإفخارستيَّا: "الدَّواء الَّذي يهب الخلود".كلّ شيء متماسك في هذا الفصل الإنجيليّ. ينطلق يسوع من معجزة ماديَّة وبعض مدلولات وصُوَر بيبليَّة يعمِّقها ويُروحنها، فيكشف أنَّه المسيح الحقيقيّ الَّّذي يحمل إلينا الخلاص الأبديّ، لأنَّه يأتي من السَّماء "ويحيا بالآب"(آ57
ثامنًا: يسوع، خبز الحياة في الإفخارستيَّا
إنَّ قمَّة خطبة الحياة هي في الخاتمة الإفخارستيَّة، فإذا كان يسوع هو خبز الحياة في كلّ ما يفعل، فهو أيضًا كذلك صورة مميَّزة في سرِّ الإفخارستيَّا، بعد هذا تُصبح الإفخارستيَّا سرّ وحدة المؤمن بالمسيح، "من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه" (آ56)؛ وليس من قبيل الصُّدف أن ترد العبارة اليوحنَّاويَّة في الفصل الخامس عشر، حيث صورة الكرمة تدلّ على السِّر الإفخارستيّ، وفي أيِّ حال، معنى العبارة واضح: إنَّه يدلّ على الرِّباط الوثيق والوحيد بين المسيح والمؤمن، فالمسيح يتَّحد اتِّحادًا وثيقًا بتلاميذه بحيث تقابل هذه الوحدة بوحدة الابن مع الآب: "أُثبتوا في محبَّتي... كما أنا أحفظ وصايا أبي وأنا ثابت في محبَّته"[16
إنَّ هذه الوحدة لا تتحقَّق بصورة آليَّة، إذ يجب على الإنسان أن يلتصق بمخلِّصه بكل قلبه وكلِّ حريَّته، عليه أن يؤمن، ومدلول الإيمان هو في قلب تعليم يوحنَّا كما في قلب تعليم بولس: كلّ الإنجيل موجَّه إلى الإيمان وإلى الإيمان يعود نشاط الإنسان الدِّينيّ كما إلى جوهره الأساسيّ
إذن، لماذا نعجب إن كان المسيح يُعطي في علامة منظورة "جسده" (لحمه)، ليؤكل (آ25) ودمه ليُشرب؟ فالمناولة الإفخارستيَّة الَّتي هي رمز فاعل للحياة الَّتي يحملها الابن، تبدو ضروريَّة للمسيحيّ كما الإيمان، "إن كنتم لا تأكلون جسد (لحم) ابن الإنسان ولا تشربون دمه، فلن تكون فيكم الحياة (آ53
في هذه الحياة الأسراريَّة يعبِّر الإيمان عن نفسه ويتغذَّى: فالنِّعمة الإفخارستيَّة هي في الوقت عينه سبب ونتيجة تعلّقنا الإيمانيّ، وفي الإفخارستيَّا تتحقَّق وتتأوَّن المواعيد المسيحانيَّة من أجلنا، ليست الإفخارستيا فقط تذكيرًا بالماضي، بل هي في الوقت عينه، وبصورة خاصَّة حضور ناشط للمخلِّص نفسه، فالمسيح هو المنّ الحقيقيّ لا في الصُّورة فحسب، بل في الحقّ
خاتمة
إنَّ المنّ الحقيقيّ النَّازل من السَّماء ليس هو المنّ الَّذي لم يمنع آكليه من الموت، بل هو يسوع نفسه (آ32- 33)، الَّذي يقبله المرء بالإيمان (آ35- 50)، هو جسده الذي يبذله ليحيا به العالم (آ51-58
يبدو لنا لاهوت يوحنَّا في الإفخارستيَّا متماسكًا وعميقًا، ولكن لاننسى أن وجه الإفخارستيَّا متعدِّد على مثال وجه المسيح نفسه، وإذا أراد العهد الجديد أن يعبِّر عن سرِّ فدائنا، عاد إلى كريستولوجِيَّات عديدة. ثمَّ إنَّ غنى هذا السِّر المركزيّ يتجسَّد في طقوس وأعياد ليتورجيَّة عديدة، فصورة المنّ السَّماويّ لا تتعارض وسائر ألقاب المسيح الكريستولوجيَّة، بل تُعيدنا إلى هذه الألقاب وتأخذ كامل معناها ومضمونها على ضوء هذه الألقاب
تُساعدنا المعارضة بين الطَّعام الماديّ وبين الطَّعام الرُّوحيّ أن نفهم من هو المسيح يسوع، فكما أنَّه استطاع بفضل معجزة أن يُعطي الشَّعب طعامًا مادِّيًّا، فهو يقدر أيضًا أن يُعطي الجميع الطَّعام الرُّوحيّ، فيسوع هو الآتي من العلاء "الكلمة صار بشرًا" نزل إلى عالم الأرض حيث نصب خيمته، وتلفَّظ بكلمة تهب الحياة والإيمان والقيامة، وبذل جسده من أجل حياة العالم، أرسله الآب من أجل الجميع، فلا يلتقيه إلاَّ من يقبل اجتذاب الله وتعليمه وعطيَّته، إلاَّ من يخضع لابنه المعلِّم الَّذي يضع خطواتنا في الطَّريق إليه
لائحة بالمراجع
1) عبد الله بطرس (الدّكتور)، 1971. قاموس الكتاب المقدَّس، بيروت: مجمع الكنائس في الشَّرق الأدنى
2) كسافييه ليون دوفور، 1986.ط2: معجم اللاهوت الكتابي، دار المشرق: لبنان
3) الفغالي بولس (الخوري)، 2003، ط1: المحيط الجامع في الكتاب المقدَّس والشَّرق القديم، المكتبة البولسيَّة:جونية
4) الفغالي بولس (الخوري)، 1992، إنجيل يوحنَّا دراسات وتأمُّلات، جونية: منشورات الرَّابطة الكتابيَّة، ج2
[1] (خر 16: 4)
[2] (عد 11: 7 و 8)
[3] (خر 16: وعب 9: 4)
[4] (يو 6: 29 - 51)
[5] (مز 78: 24 و 25)
[6] (رؤ 2: 17)
[7] (خر 17: 7)
[8] (مز 78: 23- 25، 105: 40، نح 9: 15)
[9] (حك 16: 20- 21 و25- 26)
[10] "من أين لي لحم أُعطيه لجميع هؤلاء؟"
[11] (عد11: 22؛ خر16: 16)
[12] (2مل4: 42-44)
[13] (خر16: 20)
[14] (يو3: 16)
[15] (خر16: 4)
[16] (يو10: 15)