"تعالوا، يا مباركي أبي، رثوا الملكوتَ المعدَّ لكم، لأنّي جعتُ فأطعمتموني..."
(متى25: 1-40)
تذكرُ الكنيسة في هذا الأحدِ والأسبوعِ الطّالعِ الأبرارَ والصدّيقين الذين ينتمون إلى كنيسةِ السماءِ المُمجّدة. وهم الّذين عرفوا وجهَ المسيحِ في الجائعِ والعطشان والغريبِ والعريان والمريضِ والسجين، وأعربوا عن حبّهم له بخدمتهم وتلبيةِ حاجاتهم الماديةِ والروحيةِ والمعنوية. فكانت محبّتُهم وخدمتُهم الطريقَ إلى ملكوتِ السماء: "تعالوا، يا مبارَكي أبي، رِثوا الملكوتَ المعدّ لكم، لأنّي جعتُ فأطعمتموني"(متى25: 34
إنّنا نُصلِّي إلى الله لكي يفتحَ قلوبَنا لمِثْلِ هذه المحبّةِ ويدفعُ بنا إلى القيامِ بمثلِ هذه الخدمة، ويمنحَنا الوعيَ لكي ندركَ أنّ يسوعَ يتماهى مع كلِّ مَن هو في حاجةٍ من الحاجات المذكورة في الإنجيل، وأنَّ محبّتَنا للمسيحِ إنّما تتجسّدُ وتتجلَّى في خدمتِنا لكلِّ مُحتاج، وفي اعتبارِها مؤدّاةٌ له شخصيّاً. وهكذا نقتدي بالأبرار والصدّيقين، ونكون من عدادهم
في ضوء هذا الإنجيل، وتطبيقاً لتعليمه، تُطلِق كنائسُ لبنان اليوم، مع رابطة كاريتاس – لبنان، يوماً تضامنيّاً مع إخوتنا النّازحين من سوريا إلى لبنان، وهم بعشرات الألوف. إنّ للتضامنِ معهم أوجهاً متعدّدة
نتضامنُ معهم إنسانيّاً في جرحهم ووجعِهم مؤاسين ومتفهّمين؛ ونتضامن معهم وطنيّاً في قضيّتهم، رافعين الصلواتِ من أجل أيقاف العنف والحرب والتهجير في سوريا على الفور، وحلِّ النزاع بالطرق السلميّة: الحوار والتفاهم والوفاق، ومن أجل إحلال السلام العادل والدائم في سوريا؛ ونتضامن معهم مادّياً واجتماعيّاً، مشاركين في مساعدتِهم ماليّاً وعينيّاً وخدماتيّاً، وفقاً للوسائل التي ترسمُها كاريتاس – لبنان. وقد وجَّهنا، باسم مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، نداءً لهذه الغاية، وطَلَبْنا تخصيصَ الصواني في الكنائس وجمعَ التبرعاتِ في الأديارِ والمدارس والمؤسسات وتسليمَها إلى رابطة كاريتاس – لبنان، لكي تتابعَ مساعدتَها للنازحين باسم الكنيسة
يومُ التضامن مع الإخوة النازحين يتّخذُ بُعدَه الروحيّ والإنسانيّ من إنجيل اليوم الذي هو إنجيلُ الدينونةِ العامّة في نهاية الأزمنة، كما نُعلنُها في قانونِ الإيمان "وأيضاً يأتي بمجدٍ عظيم ليدينَ الأحياء والأموات". وهو إنجيلُ الدينونةِ الخاصّة بكلّ إنسان عند موته. يُتلى في تذكارِ الأبرار والصدّيقين للتأكيد أنّ طريقَ الإنسانِ إلى الله والخلاصَ والسعادةَ الأبدية، يمرُّ عبر المحبةِ في الحقيقة
ما هي الحقيقة التي تدعونا للمحبة؟
الحقيقةُ هي أوّلاً أن يسوعَ المسيح بتجسّده تماهى مع كلّ إنسان، وبآلامه مع كلِّ متألِّم، إذ يؤكّد: "كلَّ ما عملتُموه لأحد أخوتي هؤلاء الصغار، فلي عملتموه(متى 25/40). والحقيقةُ هي ثانياً أنّك عندما تصنعُ خيرًا للإنسان، إنّما تصنعُه ليسوعَ المسيح. أجلْ، عندما صار الإلهُ إنسانًا، بيسوع المسيح، اتّحدَ نوعًا ما بكلّ إنسان. وهي ثالثاً الخلاصُ والهلاكُ الأبديّان. إنّ الذين يمارسون المحبةَ بكلّ أشكالها الموصوفة في الإنجيل يبلغون إلى سعادةِ الخلاص الأبدي: "هلمّوا يا مبارَكي أبي، رِثوا المُلكَ المُعدَّ لكم منذ إنشاء العالم"(متى25: 34). أمَّا الذين لا يمارسون هذه المحبة، بل ينكمشون على أنانيّتِهم فمصيرُهم شقاءُ الهلاك الأبدي: "إبعدوا عني، يا ملاعين، إلى النار المعدّةِ لإبليسَ وجنوده"(متى25: 41
أمّا المحبّةُ فهي إطعامُ الجائع إلى الخبز المادّي، وإلى الخبزِ الروحي، خبزِ كلمة الله وجسدِ الربِّ ودمِه، وإلى خبز العلم والتربية؛ وسقيُ العطشان إلى الماء وإلى العاطفة والرحمة والعدالة؛ وإيواءُ الغريب عن وطنه وأرضه ومحيطه، سواءٌ بداعي الهجرة أو التهجير، أم بداعي الحاجة إلى حياة اقتصادية وأمنية. إيواؤه يعني استقبالَه واحترامَه وتقديرَه في شخصه وتقاليده وثقافته وإيمانِه. والغريب أيضًا هو الذي لا يتفهّمُه أهلُ بيتِه أو محيطُه ويشعر كأنّه في غربة عنهم؛ وكسوةُ العريان الذي يحتاج لباسًا لجسده وأثاثًا لسكناه ولبيته، والذي يحتاج إلى صون كرامتِه وصيتِه؛وزيارةُ المريض والحزين والمتروك والوحيدِ والمعاق، وزيارتُه تعني الاعتناءَ به ومساعدتَه وتشجيعَه والتخفيفَ من وجعه؛ وتفقّدُ السجين سواءٌ وراء قضبان الحديد في السجن، أم وراء جدران الظلم والاستبداد، أم مَن هو سجينُ عاداته السيّئة وانحرافاته وميوله وإدمانه، ومساعدتِه على تحرير ذاته. أيها الاخوة والاخوات، كلنا نمرّ بإحدى هذة الحاجات وكلنا بحاجة بعضنا الى بعض
المحبةُ في الحقيقة هي غايةُ الوجود وجوهرُه ومعناه. وقد شكّلتِ العنوانَ لإحدى رسائل البابا بندكتوس السادس عشر العامة. كلّ إنسان مدعوٌ، بغيةَ إعطاءِ معنىً لوجوده التاريخي، أن يبحث عن الحقيقة ويكتشفَها ويسيرَ في ضوئها، ويجسّدَها في خدمة المحبة. الحقيقة توجِّهُ المحبةَ في الخطّ الصحيح، والمحبةُ تعطي الحقيقة مصداقيَّتها وقدرتَها على الإقناع في واقع الحياة الاجتماعية الملموس(الفقرة 2
ولا ننسى أنّ الحقيقةَ والمحبّة تنبعان من الله، وتُعطَيان هبةً لكلّ إنسان يظهر في الوجود. وقد انكشفتا في التاريخ، بل تجسّدتا واتّخذتا اسماً هو يسوعُ المسيح. إنّه بشخصه وأقواله وأفعاله وآياته هو الحقيقةُ التي تُنير كلَّ إنسان آتٍ إلى العالم(راجع يو1: 9). وهو المحبةُ التي بلغتْ ذروتها على صليب الفداء، فأحبّ حتى النهاية(يو13: 1). وقد ترك لنا، في الحقيقة والمحبة، مثالاً وقدوة لكي نسير على خطاه(1 بطرس2: 21
"المسيحيةُ هي حضارةُ المحبة في الحقيقة" في الشؤون الزمنيّة: الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، كما في الحياة الزوجيّة والعائليّة. هذه الحضارة هي إعلانُ حقيقةِ حبِّ المسيح في المجتمع. نحن بحاجةٍ إلى نشرِ هذه الحضارة، وتجسيدِها في الأفعال والمواقف والمبادرات. يعلّم المجمعُ المسكونيُّ الفاتيكانيُّ الثاني أنّ "مَن يتّبع المسيح، الإنسانَ الكاملَ [ في المحبة والحقيقة ]، يصبحُ هو نفسُه أكثر إنساناً"(الكنيسة في عالم اليوم، 41). فكم عالمُنا بحاجة إلى إنسانيةِ الإنسان! إنّ العنفَ والحرب والإرهاب جريمةٌ ضدّ الإنسان والإنسانية. وهذه المنطقة المشرقية المعذّبة هي بأمسِّ الحاجة إلى حضارةِ المحبة في الحقيقة، وهذا دورُ المسيحيين. ولذلك هم معتبَرون حاجةً في هذا الشرق
"كنت جائعاً، عطشاناً، عرياناً، غريباً، مريضاً، محبوساً
يعلن الربُّ يسوع تضامنه مع هؤلاء الإخوة، تضامناً حتى التماهي معهم. وبذلك يدعونا إلى التضامن بدورنا معهم، لكون التضامن فضيلةً اجتماعية أخلاقية تعني أنّنا كلُّنا مسؤولون عن كلّنا"، كما كتب الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامّة "الإهتمام بالشأن الاجتماعي"(38). أمّا تماهي المسيح معهم، فيعني أنّ مساعدةَ المحتاج والتضامنَ معه ومن أجله واجبٌ خلقي يُلزِم الضميرَ، ويشملُ كلَّ القراراتِ الشخصية والجماعية والحكومية التي تختصّ بالمسألة الاجتماعية والإنمائية والمعيشية. إنّ واجبَ التضامنِ يعني "الشعورَ بالمسؤولية تجاه الأكثر حاجة وضعفاً، والعزمَ على مقاسمتِهم ممّا نملك، والعملَ من أجل تعزيز الخير العام. ليس التضامنُ مجردَ شعور بالشفقة، شعوراً سطحيّاً عابراً"(المرجع نفسه)، بل هو الالتزام بالمساعدة
تساعدنا فضيلةُ التضامن على رؤية الآخر المحتاج، أشخصاً كان أم شعباً أم أمّة، والتعاطي معه كشبيهٍ بنا وعون لنا(تك2: 18و20)، لا كأداة وسلعة للاستعمال. ولذلك، استضعافه أو الاعتداء عليه أو تدميره أو تعذيبه أو تشريده أو قتله، كلّها جرائم ضدّ كرامة الإنسان والإنسانية
9. إنّنا، في يوم التضامن مع الإخوة النازحين من سوريا، نناشد ضمائر المتقاتلين على أرضها، الذين يتسبّبون بالدمار والقتل والتهجير، أن يتّقوا الله ويخافوه، ويوقفوا جريمة القتل والتنكيل بالمواطنين الأبرياء وتدمير ما بنته الحضارة وأصبح مُلكًا للبشريّة جمعاء وللتاريخ. وإنّ الاستقواء بالسلاح واستعماله من دون رادع الضمير جبانة. أمّا الجلوس على طاولة التفاوض وإيجاد الحلول للنزاع بالحوار والوفاق، فبطولة وكبر في النفس
ونناشد مسؤولي الدول التي تحارب في سوريا، بمدّ المال والسلاح والعتاد سواء للنظام أم للمعارضة – وهذا اصبح مكشوفًا - بالتوقّف عن فعلهم السيّئ والتحريضي، لأنّهم يرتكبون هم أنفسهم جريمة القتل والدمار والاعتداء على المواطنين الأبرياء وتهجيرهم، ويتحمّلون المسؤولية أمام محكمة الضمير والتاريخ
كما نناشد الأسرة الدولية ومنظّمة الأمم المتّحدة عيش الأمانة لمسؤوليتها كمؤسّسة وُجدت بعد الحرب الكونيّة الأولى، وتحديداً في 26 حزيران 1945، "من أجل هدف أساسي جوهري هو حفظ السلام بين الشعوب وتوطيد عناصره، وإنماء علاقات الصداقة فيما بينهم على أساس من مبادئ المساواة والاحترام المتبادل، والتعاون المتعدّد الوجوه في قطاعات العيش معاً، ولا سيّما في الاقتصاد والاجتماع والثقافة والتربية والصحة(الطوباوي يوحنا الثالث والعشرون: السلام على الأرض، 75
ونناشد الأفرقاء اللبنانيين الكفَّ عن المراهنة، هذا على النظام وذاك على المعارضة في سوريا، لأنّهم برهانهم يعطّلون سير الحياة العامّة في لبنان، ويشلّون القرارات الوطنية، ومن بينها وضع قانون جديد للانتخابات النيابية، ويتسبّبون بهجرة المواطنين وفقدان الثقة بهم وبالوطن الأمّ؛ ونطالبهم بتحمّل مسؤولياتهم تجاه الدولة اللبنانية وشعبها، وبالقيام بدور إيجابي يدعو إلى حلّ النزاع في سوريا بالحوار والتفاهم وبسائر الوسائل السلميّة
ونناشد الإخوة النازحين من سوريا، بحكم واجب التضامن، حفظ الجميل للدولة اللبنانية وشعبها ومؤسساتها للاستقبال والاهتمام، والمبادلة بالاحترام والتقدير، بعيداً عن أي موقف هدّام للنسيج الاجتماعي أو للعيش معاً أو للأمن الأهلي، والتزاماً بتفعيل ثقافة لبنان القائمة على الانفتاح وحسن الضيافة والوحدة في التنوّع
ونناشد المسؤولين في الدولة اللبنانية ضبط الحدود، وإحصاء النازحين، واتّخاذ كلّ التدابير لمنع تسرّب السلاح إلى لبنان، ولإحباط كلّ محاولة ممكنة لمؤامرات على أرضه سواء للداخل أم للخارج، ولتجنّب أي استغلال للنازحين طائفيّاً أو مذهبيّاً أو سياسيّاً؛ والعمل مع الدول المعنيّة ومنظّمة الأمم المتّحدة على عدم تحميل لبنان أعداداً من النازحين تفوق قدرته الاجتماعية والاقتصادية، ومساحته ومعدّل سكانه، وبالتالي العمل على توزيع النازحين على الدول المحيطة وسواها، وبخاصّة على استيعاب النازحين في المناطق السورية الآمنة، تسهيلاً لعودتهم إلى بيوتهم وأراضيهم وأعمالهم.
9. إنّنا نرفع صلاتنا اليوم من أجل إحياء روح التضامن لدى الجميع، ومن أجل السلام في لبنان وفي سوريا والمنطقة. وليرتفع من أرضنا نشيد السلام، تمجيداً لله الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.