"عمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (متى 28: 19
تحتفل الكنيسة اليوم بعيد الثالوث الأقدس، الآب الذي خلقنا، والابن الذي افتدانا وخلّصنا، والروح القدس الذي يُحيينا ويقدّسنا. باسم الثالوث القدّوس تبدأ الكنيسة وأبناؤها وبناتها كلّ عمل وقول ومبادرة، ولمجده تُنهي ما بدأت. ويمارس الأساقفة ومعاونوهم الكهنة خدمتهم المثلّثة التي تسلّموها من الرسل، أساقفة العهد الجديد، جرياً على التقليد الرسولي.هذه الخدمة المثلّثة مسلّمة للكنيسة بكلام المسيح الربّ في إنجيل اليوم
أ - الكرازة والتعليم: "إذهبوا، فتلمذوا كلَّ الأمم" (متى28: 19
ب - التّقديس بنعمة الأسرار: "عمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (متى 28: 19
ج _ الرعاية برباط المحبة: "علِّموهم أن يحفظوا كلَّ ما أوصيتكم به" (متى28: 20
يمارس رعاة الكنيسة هذه الخدمة المثلّثة بسلطان إلهي، هو سلطان المسيح الربّ، وقد منحهم إيّاه، مؤكّداً أنّه هو الفاعل من خلالهم بوعده: "ها أنا معكم إلى نهاية العالم" (متى28: 20
يسعدنا أن نحيّيكم جميعاً ايها الحاضرون، وأن نهنّئَكم بعيد الثالوث الأقدس الذي هو السرّ المحوري للإيمان المسيحي والحياة المسيحية. وهو المصدر والينبوع لكلّ اسرار الإيمان، والنور الذي يضيء جوهرها وكلّ جوانبها (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 234
حدّد المجمع المسكوني الأوّل عقيدة الثالوث الأقدس باستعمال ثلاث لفظات
الأولى، "الجوهر" أو "الطبيعة" للدلالة على الكائن الإلهي في وحدانيّته. فنقول الثالوث الواحد. لا نؤمن بثلاثة آلهة بل بإله واحد في ثلاثة أقانيم، الثالوث المتساوي في الجوهر. الأشخاص الإلهيّة لا يتقاسمون الطبيعة الإلهية، بل كلّ شخص هو كلّ الجوهر والطبيعة
الثانية، "الشخص" أو "الأقنوم" للدلالة على الآب والابن والروح القدس في تمايزهم الحقيقيّ الواحد عن الآخر، من جهة علاقاتهم الأصليّة: الآب هو المصدر الذي يلد، لا يخلق، الابن هو المولود، الروح القدس هو الذي ينبثق. فنقول الوحدانيّة الإلهية ثالوث
الثالثة، "العلاقة" للدلالة على أنّ واقع التمايز قائم في الارتباط بين الأشخاص: الآب مرتبط بالإبن، والابن بالآب، والروح بالاثنين، والجوهر واحد.وكلّ واحد منهم هو كلّه للآخر
نعبّر عن إيماننا بالثالوث في إشارة الصليب. نبدأ بها كلّ عمل: "باسم الآب والابن والروح القدس" استلهاماً واستنجاداً واتّكالاً؛ وننهي "بالمجد للآب والابن والروح القدس" تمجيداً وشكراً وتسبيحاً
عدنا أوّل من أمس من زيارة راعوية شملت سبع دول من أميركا اللاتينية: الأرجنتين والأورغواي والباراغواي والبرازيل وفنزويلا وكوستا ريكا وكولومبيا، تعلمون أنّ لنا فيها أبرشيتان: البرازيل والأرجنتين، فيما مطران أبرشيتنا في المكسيك هو زائر رسولي على الموارنة في أميركا الوسطى وفنزويلا
إنّنا نُحيّي السادة المطارنة رعاة هذه الأبرشيات: شربل مرعي مطران الأرجنتين وإدغار ماضي مطران البرازيل وجورج ابو يونس مطران المكسيك، والكهنة والرهبان والراهبات وكلَّ المؤمنين والمؤمنات أبناء كنيستنا المارونية. ونُحيّي السادة المطارنة رعاة الكنائس الشرقية الأخرى، الكاثوليكية منها والارثوذكسية، وسائرَ الجاليات اللبنانية والعربية. ونُحيّي الكرادلة والمطارنة ورؤساء أساقفة الأبرشيات اللاتينية الذين زرناهم والتقيناهم في مختلف المناسبات الروحية والاجتماعية التي جمعتنا مع هذه الجالية. ويطيب لي أيضًا أن أُحيّي رؤساء الدول ووزراء الخارجية وحكّام الولايات ورؤساء البلديات، والوزراء والنواب ورجال الأمن والمواكبة. ونحيّي رؤساء الطوائف الإسلاميّة، سنّة وشيعة وموحّدين دروزاً، الذين التقيناهم في أكثر من مناسبة وبلد
إيّاهم جميعًا أشكرهم، مع الوفد الذي رافقنا، مطارنة ورؤساء عامّين ومدبّرين عامّين لرهبانيّاتنا المارونية. أعرب لهم عن الشكر الجزيل على كبير محبتهم وسخاء حفاوتهم واستقبالاتهم. أشكرهم على ما سخَوا به من مالهم وجهدهم وسهرهم لتأمين طيب الإقامة والتنقّل والحماية الأمنية. أشكر كل الذين وضعوا بتصرّفنا طائرات خاصّة للتنقّل من مدينة إلى مدينة، ومن دولة إلى أخرى؛ والذين قدّموا سياراتهم المصفّحة وحرّروها لنا طيلة إقامتنا في ربوعهم. أشكر السلطات السياسية والإداريّة على الأوسمة والدروع ومراسيم مواطنية الشرف التي منحوني إياها. وأعرب عن شكري للجميع على مختلف الهدايا التذكارية
إنّ جالياتنا اللبنانية والمارونية مفخرة للبنان يعتزّ بها الجميع. فالمنتشرون انطلقوا من الحضيض وارتفعوا إلى القمم في كلّ المجالات. مشكورة البلدان التي استقبلتهم، وفتحت أمامهم كلّ الأبواب والإمكانيات. فجعلوا من الأرض الغريبة أرضهم: سقوها بعرق جبينهم، واستخرجوا منها الخير الدّفّاق، وأصبحت البلدان الغريبة أوطانهم فأخلصوا لها وساهموا في إنماء إنسانها ومجتمعاتها. وحوّلوا الشعوب الغريبة عنهم باللغة والثقافة والتقاليد الى أصدقاء أحبّاء، إحترموهم وقدّروهم بتبادل كامل
المنتشرون هم سفراء لبنان الحقيقيون، إلى جانب السفراء الرسميين. إذ عرّفوا شعوب بلدانهم، قادة ومسؤولين ومواطنين، على لبنان أنّه بلد الفكر المبدع الخلاّق، والإرادات الصلبة، والقلوب الشجاعة. عرّفوهم بأن اللبناني إنسانيّ طموح، وأن هدفه القمم، وجوهره إحياء الصداقة مع الجميع، بروح التعاون والتبادل تجاريًّا واقتصاديًّا، صناعيًّا وثقافيًّا. فالإنسان اللبناني هو ابن جغرافيّته وتاريخه: يرى أمامه البحر الفسيح فيطمح إلى السفر وخلق العلاقات مع كلّ الشعوب، من دون أن يحلم يومًا باللجوء إلى الحرب والسلاح؛ ويرى وراءه الجبل وحوله التلال، فيطمح إلى الذروة والأعالي. هؤلاء المنتشرون يوجبون على الدولة اللبنانية احترامَهم وحسنَ استقبالِهم وتسهيلَ دخولِهم وإقامتِهم ومشاريعِ استثماراتِهم في الوطن، وإعطاءَهم الحقّ بالجنسية وبسائر الحقوق المدنية. إنّهم جزء أساسي من الشعب اللبناني. فلبنان وشعبه مثل شجرة الأرز مغروسة في لبنان، والمنتشرون أغصانها. فلا بدّ من الربط العضوي بين لبنان المقيم ولبنان المنتشر
ما يُؤسَف له اليوم أنَّ العمل السياسيّ عندنا يُناقض هذا الواقع: يعطّل الانسانَ اللبناني وقدراتِه، ويسدّ بوجهه كلَّ الإمكانيات، ويقحمه على هجرة الوطن، وينتزع منه حقّ المشاركة في شؤون الحياة العامة. لا يمكن بأي شكل من الأشكال القبول بهذه الممارسة التعطيلية لعمل المؤسسات الدستورية والمتسبّبة بتعقيد الحياة السياسية، وبشلّ الحركة الاقتصادية والتجارية والسياحية، وبانتزاع الأمل والطموح من قلوب شبيبتنا وأجيالنا الطالعة؛ ولا يمكن القبول بهذا الإمعان في عدم الاتفاق على قانونٍ انتخابي جديد عادل ومنصف، يرتاح له جميع المواطنين، ويُرضي كلّ مكوّنات الوطن، ولا بهذه اللامسؤولية واعتماد كل وسائل التعطيل لتأليف حكومة جديدة تتحمّل مسؤولياتها الخطيرة، السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية؛ ولا يمكن القبول بالتمديد للمجلس النيابي لأي مدّة كانت من دون إقرار قانون جديد للانتخابات، بحجّة اضطراب الحالة الأمنية والانشغال بأحداث سوريا. فما معنى أنّ المجلس النيابي لا يصوّت على ما في حوزته من مشاريع قانون للانتخابات، ويقرّر فيما بعد التمديد التقني للمجلس، احتراماً لنفسه وللجهود التي بُذلت لوضع مشاريع القوانين بعد العديد من الدراسات والمشاورات، واحتراماً لكرامة الشعب اللبناني الذي هو مصدر السلطات؟
في عيد الثالوث الأقدس، نجدّد إيماننا بالله الواحد والمثلّث الأقانيم: بالآب الذي أحبّنا وخلقنا ويعتني بنا، وبالابن يسوع المسيح، الذي افتدانا وخلّصنا بموته وقيامته، وبالروح القدس الذي يتمّم فينا ثمار الفداء والخلاص، ويحيينا ويقدّسنا. ونجدّد إيماننا بالكنيسة، الأم والمعلّمة، التي تلدنا بالمعمودية والميرون لحياة جديدة، وتغذّي نفوسنا بطعام الكلمة الإلهية وجسد الربّ ودمه وتقدّسها بنعمة الأسرار؛ والتي من خلال رعاتها، الأساقفة والكهنة، تمارس سلطانها الإلهي المثلّث: التعليم والتقديس والتدبير، باسم المسيح وبشخصه. فلنصلِّ من أجل رعاة الكنيسة لكي بالغيرة الرسولية والأمانة للمسيح يمارسوا خدمتهم المثلّثة في لبنان والشرق وبلدان الانتشار، ومن أجل أبناء كنيستنا وبناتها، لكي يتلقوا، بروح الطاعة والمحبة للكنيسة، هذه الخدمة، لخلاص نفوسهم وإنعاش مجتمعاتهم بالقيم الروحية والأخلاقية والإنسانية
ومعاً نرفع المجد والتسبيح والشكر للآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، إلى الأبد، آمين