رسالة بندكتس السادس عشر لشبيبة العالم أجمع
" إفرحوا دائما في الرب! " (فيليبي 4،4
أيها الأصدقاء الأعزاء
يسرني مرة جديدة أن أوجه إليكم كلمة بمناسبة اليوم العالمي السابع والعشرين للشبيبة. لا تزال ذكرى لقائي بكم في مدريد، في أغسطس الماضي تراودني حتى اليوم، فلقد أمضينا خلاله وقتًا إستثنائيًا نلنا فيه النعم كما بارك الله الشباب الذين حضروا من كافة أقطارالعالم. أشكر الله على كل ما أنتجته تلك اللقاءات التي بالتأكيد ستبرز ثمارها في مستقبل الشباب والمجتمعات التي ينتمون إليها. نحن اليوم بانتظار اللقاء القادم في ريو دي جانيرو في سنة 2013 تحت شعار: " إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم" (راجع متى 28، 19
أما موضوع يوم الشبيبة العالمي لهذه السنة فقد استوحيته من رسالة القديس بولس إلى أهل فيليبي: " إفرحوا دائما في الرب! "( فيليبي 4،4)، فالفرح في الواقع هو عنصر أساسي من التجربة المسيحية، وخلال كل لقاء عالمي للشبيبة، نعيش تجربة فرح كبيرة، كفرح الشراكة، وفرح الإيمان وفرحنا بكوننا مسيحيين. هذه سمة من سمات هذه اللقاءات ونحن نلاحظ كم يجذب هذا الفرح: في عالم يتسم في معظم الأوقات بالتعاسة والهموم، يشكل الفرح له شهادة تحمل في طياتها جمال الإيمان المسيحي وحقيقة أنه جدير بالثقة
أما رسالة الكنيسة فهي أن تزرع الفرح في العالم، فرح حقيقي يستمر كالفرح الذي أعلنه الملائكة لرعاة بيت لحم ليلة ولادة المسيح ( لوقا 10،2): الله لم يتكلم سدى، ولم يخلّف علامات عجائبية في تاريخ البشرية فحسب بل جعل نفسه قريبا جدا إلى حد أنه تجسد لأجلنا واختبر جميع مراحل الحياة الإنسانية. في هذه الأوقات الصعبة، كثير من الشباب حولكم بحاجة ماسة ليعلموا أن الرسالة المسيحية هي رسالة حب ورجاء. أود أيضا أن نفكر سوية بهذا الفرح، وبالطرق التي يمكننا أن نجده بها حتى تتمكنوا من عيشه بعمق أكثر فأكثر وتكونوا رسلًا من حولكم
1. قلبنا هيكل للفرح
طُبعت الرغبة بالفرح في قلب الإنسان. بعيدًا عن الملذات العابرة، يسعى قلبنا للحصول على الفرح العميق، الكامل والدائم الذي بإمكانه أن يعطي "طعمًا" للوجود. هذا بخاصة ينطبق عليكم، فالشباب هو فترة من الإكتشاف المستمر للحياة، والعالم، والآخرين، والذات. هذا وقت للإنفتاح على المستقبل حيث تقبع الرغبات الكبيرة للسعادة، والصداقة، والمشاركة، والحقيقة، ونهدف إلى الأمثل ونتخيّل مشاريع متعددة. يمنحنا الرب في كل يوم أفراحًا بسيطة ومنها: فرح الحياة، فرح العمل المتقن، فرح الخدمة، وفرح الحب الحقيقي والنقي. أما إذا فكرنا جيدا، فنجد أن لدينا أسبابًا أخرى للفرح ألا وهي: اللحظات الجميلة التي نعيشها في الأسرة، والصداقة المشتركة، واكتشاف قدراتنا الشخصية وإنجازاتنا الخاصة، ومديح الآخرين لنا، وقدرة التعبير والإقناع، وشعورنا بأننا مفيدين للآخرين. يضاف إلى كل ذلك المعرفة الجديدة التي ننالها بالدراسة، واكتشاف أبعاد جديدة من خلال السفر واللقاءات، والقدرة على وضع خطط للمستقبل، ولكن أيضًا قراءة عمل أدبي، والتأمل بتحفة فنية، والإستماع إلى الموسيقى أو حتى عزفها، كل هذا يزرع في داخلنا أفراحًا حقيقية. مع ذلك، نواجه كل يوم مصاعب جمّة، وقلوبنا يسيطرعليها القلق تجاه المستقبل، مما يدفعنا لنتساءل إن كان هذا الفرح الدائم الذي نطمح إليه مجرد وهم وهروب من الواقع
كثير من الشباب يسألون أنفسهم : هل الفرح المثالي موجود حقا؟ ويبحثون عنه بطرق مختلفة وفي بعض الأحيان بطرق خاطئة أو على الأقل خطيرة. كما يسألون أيضًا: كيف نميز بين الأفراح الحقيقية الدائمة واللذات العابرة والمزيفة؟ كيف نجد الفرح الحقيقي في الحياة، هذا الذي يدوم ولا يتخلى عنا أبدا حتى في الأوقات الصعبة؟
2. الله هو مصدر الفرح الحقيقي
في الواقع، إن الأفراح الحقيقية أكانت أفراحًا صغيرة يومية أم أفراح كبيرة في الحياة، جميعها مصدرها الله حتى ولو لم يَظهر لكم ذلك على الفور. السبب أن الله هوشركةحب أبدي، وهو فرح لامتناه ليس منغلقا على نفسه بل ينتشر في قلوب الذين يحبهم ويحبونه. خلقنا الله على صورته و مثاله ليحبنا ويغمرنا بفيض نعمه. يريدنا أن نشاركه فرحه الإلهي الأبدي كما يريدنا أن نكتشف أن معنى حياتنا وأهميتها يكمن في قبوله، وحبه، ولقياه لنا، فلقيا الله ليس مجرد لقاء عادي وعابر كلقيا البشر بل هو لقاء إلهي غير مشروط: الله يريدني ويحبني، ولديّ مكانتي في العالم والتاريخ. إن قبلني الله وأحبني، وهو كذلك طبعًا، عندها أكون واثقا كل الثقة بأنني محظوظ في وجودي على هذه الأرض. حب الله اللامحدود لنا تجلى بأوضح صورة بيسوع المسيح، فيه يكمن الفرح الذي نسعى إليه. نجد في الإنجيل كيف أن الأحداث التي تشكل بداية حياة يسوع تتسم بالفرح، كحين بشر الملاك جبرائيل مريم العذراء بأنها ستكون أم المخلص بدأ بهذه الكلمات: " إفرحي!" ( لوقا 28،1) وعند ولادة المسيح قال ملاك الرب للرعاة: " ها أنا أبشركم بخبرعظيم يفرح له جميع الشعب: ولد لكم اليوم مخلص هو المسيح الرب." (لوقا 11،2) والمجوس الذين كانوا يبحثون عن الطفل " لما رأو النجم فرحوا فرحًا عظيمًا جدًّا" (متى 10،2). سبب هذا الفرح هو قُرب الله منّا فلقد تجسد ليصبح إنسانا مثلنا. تكلم القديس بولس في رسالته إلى أهل فيليبي أيضا عن الفرح قائلا: " إفرحوا دائما في الرب، وأقول لكم أيضا: إفرحوا. ليشتهر صبركم عند جميع الناس. مجيء الرب قريب" (فيليبي 4:4-5 ). السبب الأول لفرحنا هو قربنا من الله الذي يحبنا ويحتضننا. في الواقع، يولد لدينا دائما فرح داخلي عندما نلتقي بيسوع، هذا مذكور أيضا في عدة آيات من الإنجيل. لنأخذ مثلا الزيارة التي قام بها يسوع لزكا جابي الضرائب الخاطىء وقال له: " سأقيم اليوم في بيتك" و زكا، كما يذكر لوقا البشير " استقبله بفرح." (لوقا 19: 5- 6). هذا هو فرح اللقاء مع المسيح والإحساس بمحبة الله التي يمكنها أن تغير كل الوجود وتحقق الخلاص للعالم. قرر زكا إذًا تغيير حياته وإعطاء نصف ما يملك للفقراء
يتجلى حب يسوع الكبير لنا في الآلام التي عاناها من أجلنا، ففي الساعات الأخيرة من تواجده على هذه الأرض جلس إلى العشاء مع تلاميذه وقال لهم: " أنا أحبكم مثلما أحبني الآب، فاثبتوا في محبتي(...) قلت لكم هذا ليدوم فيكم فرحي، فيكون فرحكم كاملا" (يو 15: 9 ،11). يريد المسيح أن يحقق تلاميذه كما كل واحد منا الفرح الكامل، هذا الفرح الذي يتشاركه مع أبيه، لتظهر فينا محبة الله له (راجع يو 17 ، 26). الفرح المسيحي هو في الإنفتاح على حب الله وتسليم الذات له
يخبرنا الإنجيل أن مريم المجدلية ونساء أخريات جئن لزيارة القبر فأخبرهن الملاك بقيامة المسيح من بين الأموات، فتركن القبر مسرعات "في خوف وفرح عظيمين" وذهبن يحملن الخبر السار إلى التلاميذ، فلاقاهن المسيح وقال لهن: "السلام عليكن!" (متى 28،9:8)، لقد نلن فرح الخلاص: المسيح حي، لقد غلب الشر، والخطيئة، والموت، وهو معنا طوال الأيام إلى انقضاء الدهر (راجع متى 20،28). لن يسيطر الشر على حياتنا لأن إيماننا بالمسيح المخلص يخبرنا بأن حب الله ينتصر دائما. هذا الفرح العميق هو ثمرة الروح القدس الذي يجعلنا أبناء الله، نلمس طيبته ونعيشها، ونناجيه قائلين "أبا"، يا أبانا ( راجع روما 15،8). الفرح هو علامة لوجود الله فينا وفي أعمالنا
3. إحفظوا الفرح المسيحي في قلوبكم
نحن نتساءل اليوم: كيف نستطيع أن نتلقى ونحافظ على هذه الهبة ألا وهي الفرح العميق والفرح الروحي؟ يقول المزمور: "تلذذ بالرب فيعطيك سؤل قلبك" (مزمور 36 ،4) ويشرح المسيح قائلا: "ويشبه ملكوت السماوات كنزًا مدفونًا في حقل، وجده رجل فخبأه، ومن فرحه مضى فباع كل ما يملك واشترى ذلك الحقل" (متى 13، 44). إن إيجاد الفرح الروحي والمحافظة عليه ينبع من اللقاء مع الرب الذي يطلب منا أن نتبعه متخذين خيارًا حاسمًا بتكريس حياتنا له
أيها الشباب، لا تخافوا بأن تكرسوا حياتكم للمسيح ولإنجيله: هذا هو السبيل لتحقيق السلام والسعادة الحقيقية في عمق قلبنا، وبهذا نحقق وجودنا كأبناء لله الذي خلقنا على صورته ومثاله. إفرحوا دائما في الرب: الفرح هو ثمرة الإيمان، هو أن نلمس كل يوم حضوره ومحبته: " مجيء الرب قريب" ( فيليبي 4 ، 5 ). ضعوا ثقتكم دائما به، هكذا تنمون في معرفته وحبه. " سنة الإيمان" التي نحن قادمون عليها، ستساعدنا وتشجعنا
أيها الأصدقاء، تعلموا أن تلمسوا عمل الله في حياتكم، اكتشفوا وجوده في عمق أعمالكم اليومية. آمنوا بأنه وفيّ دائما للعهد الذي ختمكم به يوم عمادكم واعلموا بأنه لن يتخلى عنكم أبدًا. إرفعوا عيونكم إليه، هو الذي أحبكم بذل نفسه لأجلكم على الصليب. إن التأمل بحب عظيم كهذا، يزرع في قلوبنا رجاءً وفرحًا لا يغلبهما شيء. لا يمكن أن يحزن المسيحي عندما يلتقي بيسوع الذي بذل نفسه لأجله
إبحثوا عن الرب، فإن قبلناه في حياتنا يعني حتما بأننا استقينا كلمته التي هي فرح قلبنا. يقول النبي إرميا: " وُجد كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي" ( إرميا 15، 16). تعلموا قراءة الكتاب المقدس والتأمل به، هناك تجدون الجواب لأسئلتكم العميقة عن الحقيقة التي تشغل قلبكم وعقلكم، فكلمة الله تجعلنا نكتشف العجائب التي أنجزها الله في تاريخ البشر وتدفعنا لتسبيحه وعبادته ونحن ممتلئين فرحًا: "هلموا نرنم للرب...هلموا نسجد ونركع أمام الرب صانعنا" (مزمور 94 1، 6). القداس هو بامتياز المكان الذي يتم فيه التعبير عن هذا الفرح الذي تغرفه الكنيسة من الرب وتنقله للعالم. هكذا تحتفل الطوائف المسيحية كل أحد خلال الإفخارستيا بسر الخلاص ألا وهو موت وقيامة المسيح. هذه هي اللحظة الأساسية التي تبدأ بها رحلة كل تلميذ للرب، فبها تتجلى تضحيته من كثرة حبه لنا. هذا هو اليوم الذي نجتمع فيه مع المسيح القائم من الموت حيث نسمع كلامه ونتناول جسده ودمه ويقول المزمور: "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب فلنبتهج ولنتهلل فيه" ( مز24،117) وعشية أحد القيامة تتهلل الكنيسة بانتصار يسوع المسيح على الخطيئة والموت: "إفرحي يا أجواق الملائكة.. وابتهجي أيتها الأرض التي لطالما عانت من الحروب..وليصدع في هذه المسكونة صدى تهليل الشعوب ". الفرح المسيحي هو أن يحبنا الله الذي تجسد لأجلنا وبذل نفسه عنا فيجب أن نعيش حبًا به فنذكر ما كتبت القديسة تيريزيا الطفل يسوع: " يسوع فرحي أن أحبك.
4. فرح المحبة
أصدقائي الأعزاء، الفرح مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمحبة: "أما ثمر الروح فهو المحبة والفرح.." (راجع غل 5، 23). الفرح هو نتيجة الحب وشكل من أشكاله. أشارت الأم تيريزا إلى كلمات المسيح: "تبارك العطاء أكثر من الأخذ" ( أعمال الرسل 20، 35) بقولها: "الفرح هو سلسلة من الحب، لكسب النفوس. الله يحب من يعطي بفرح. والذي يعطي بفرح يعطي أكثر فأكثر." وكتب خادم الله بولس السادس: "بالله نفسه، كل شيء هو فرح لأن كل شيء هو عطاء" ( الإرشاد الرسولي "افرحوا بالرب"، 9 مايو 1975
بعد أن أدركتُ مختلف أنماط حياتكم، أريد أن أقول لكم أن الحب يتطلب الثبات والإخلاص في الإلتزامات التي تقطعونها. هذا ينطبق في بادىء الأمر على الصداقات، فأصدقاؤنا يتوقعون منا أن نكون مخلصين ووفيين لأن الحب الحقيقي يثابر بخاصة في الضيقات. كذلك ينطبق الأمر على العمل، والدراسات، والخدمات التي تقدمونها. الإخلاص والمثابرة في عمل الخير يقودان للفرح حتى ولو لم يظهر ذلك على الفور. لاختبار فرح الحب، نحن مدعوون أيضا إلى أن نكون كرماء، وليس أن نعطي القليل بل أن نشارك مشاركة كاملة في الحياة مع إيلاء اهتمام خاص للفقراء. يحتاج العالم إلى نساء ورجال مثابرين ومخلصين يهبون أنفسهم لخدمة الخير العام. أقول لكم التزموا وادرسوا بجدّ، نموا مواهبكم وضعوها من اليوم في خدمة القريب، حيثما كنتم، إبحثوا عن كيفية المساهمة لجعل المجتمع أكثر عدلا وإنسانية. فلتقود روح الخدمة حياتكم ولا تبحثوا عن السلطة، ولا عن النجاح المادي ولا عن المال
أما بالنسبة إلى الكرم فلا يمكنني إلا أن أذكر هذا الفرح المميز ألا وهو فرح تسليم الذات بكليّتها للرب. أيها الشباب لا تخافوا من دعوة المسيح لكم إلى الحياة المكرسة، أوالرهبانية، أوالتبشيرية أوالكهنوتية. كونوا على يقين بأنه يغمر بالفرح الذين يكرسون حياتهم له ويلبون دعوته بترك كل شيء والبقاء معه ووضع أنفسهم بخدمة الآخرين. كذلك، عظيم هو الفرح الذي يحيط به الرجل والمرأة اللذين يتحدان بالزواج لتأسيس عائلة فيشكلان علامة حب المسيح لكنيسته
إسمحوا لي بأن أشير إلى عنصر ثالث للحصول على فرح الحب: إجعلوا الشركة الأخوية تنمو في حياتكم ومجتمعكم. هناك رابط قوي بين الشركة والفرح: فليس من باب الصدفة أن تكون عظة مار بولس قد صيغت بصفة الجمع: " إفرحوا دائما في الرب!" (فيليبي 4،4). معًا فقط يمكننا أن نختبر هذا الفرح بعيشنا الشركة الأخوية. يشرح كتاب أعمال الرسل عن أول مجتمع مسيحي: " يكسرون الخبز في البيوت، ويتناولون الطعام بفرح وبساطة قلب" (أعمال الرسل 2 ، 46). أنتم أيضا إسعوا لأن تكون المجتمعات المسيحية أماكن مميزة للمشاركة، والاهتمام ولخدمة بعضكم البعض
5. فرح التوبة
أيها الأصدقاء، لعيش الفرح الحقيقي، عليكم أن تدركوا ما هي الإغراءات التي تكبّلكم. غالبًا ما تدفعكم الثقافة الحالية إلى تحقيق أهداف وملذات عابرة وبذلك هي تُغلّب عدم الإستقرار على المثابرة في الجهد والإخلاص للإلتزامات. إن الرسائل التي تتلقونها تحثكم على الإستهلاك وتقطع عليكم وعود سعادة كاذبة، ولكن التجربة تدل على أن التملك لا يتماشى والفرح: كثيرون هم الأشخاص الذين لا يفتقرون للماديات ولكن يتملكهم اليأس والحزن ويشعرون بالفراغ في حياتهم. لتبقى فينا المحبة، نحن مدعوون لكي نعيش الحب والحقيقة في الله
يريدنا الله أن نكون سعداء، لهذا السبب زوّدنا بتوجيهات لكي لا نضل طريقنا ألا وهي: الوصايا، فإذا عملنا بها أرشدتنا إلى طريق الحياة والسعادة. للوهلة الأولى يمكننا أن نشعر بأنها مجموعة من المحظورات تكبّل حريتنا، ولكن إن تأملنا بها قليلًا على ضوء رسالة المسيح، فسنجد بأنها مجموعة من القواعد الأساسية والقيّمة للحياة تجعلنا نعيش وفق مخطط الله لنا، ولكن على العكس إن قمنا ببناء أي شيء متجاهلين الله وإرادته سنسبب لأنفسنا خيبة أمل كبيرة وتعاسة كما سنختبر معنى الفشل. أما تجربة الخطيئة نتيجة لرفضنا اتباع يسوع ورفضنا محبته، فستجعل الظلمة تخيم على قلوبنا
إذا كان طريق المسيحية وعرًا وواجه الإلتزام بالإخلاص لمحبة الرب صعوبات أو انتكاسات، كونوا على ثقة أن الله الرحوم لن يتخلى عنكم، فهو يعطينا دائما الفرصة للعودة اليه واختبار فرح حبه الذي يسامح الجميع ويستقبلهم من جديد
أيها الشباب، إلجئوا دوما إلى سر التوبة والمصالحة فهذا هو سر الفرح. تقدموا إليه دائما بصفاء، وثبات، وثقة واطلبوا من الروح القدس أن ينوّركم لتعترفوا بخطاياكم وتلتمسون المغفرة من الله. سيحتضنكم الله دائما، وسيطهّركم ويجعلكم تدخلون فرحه: " هكذا يكون الفرح في السماء بخاطىء واحد يتوب" (لوقا 7،15
6. الفرح في وقت الضيق
هناك سؤال لا يفارق تفكيرنا: هل يمكننا أن نعيش الفرح في خضم تجارب الحياة ولا سيما الأكثر إيلاما منها وغموضا؟ هل اتباع الرب والإيمان به يؤمنان لنا السعادة دائما؟
استقينا الإجابة من تجارب شباب مثلكم فهم وجدوا في المسيح النور الذي يمنحهم القوة والرجاء حتى في أصعب لحظات حياتهم. خاض الطوباوي بيار جورجيو فراساتي عدة تجارب في حياته القصيرة على الأرض، منها تجربة سيئة في حياته العاطفية جرحته في الصميم، فراسل أخته قائلا: "تسألينني إذا كنت فرحًا. كيف لا يمكنني ألا أكون؟ أنا فرح ما دام الإيمان يمدني بالقوة! لا يمكن لأي كاثوليكي أن يكون حزينا(...) الهدف الذي خلقنا لأجله يظهر لنا أن طريقنا مزروع بالأشواك ولكنه ليس طريقا حزينا: يبقى طريق فرح حتى من خلال المعاناة" ( رسالة إلى أخته لوشانا، تورينو، 14 فبراير 1925) والطوباوي يوحنا بولس الثاني كان يضرب المثل فيه قائلا: " كان شابا يشع فرحا يساعده على تخطي صعوبات حياته" ( كلمة للشباب، تورينو، 13 أبريل 1980). أما الأقرب إلينا فهي الشابة كيارا بادانو( 1971-1990) التي طُوبت حديثا، فهي اختبرت كيف يمكن للحب أن يغير الألم ويحوله إلى فرح دائم. كيارا، البالغة من العمر 18 سنة وبينما هي على صراع مع المرض، طلبت من الروح القدس شفيع حركة الشباب أن يشفيها كما تضرعت للرب ليرسل روحه في الشباب فيُنير عقولهم ويمنحهم الحكمة. لقد كتبت قائلة: " كانت حقا لحظة منحني إياها الله، كنت أعاني من آلام جسدية كثيرة، ولكن روحي كانت تهلل." ( رسالة إلى كيارا لوبيك، ساسيللو، 20 ديسمبر 1989). كان سر سلامها وفرحها يكمن في ثقتها العمياء بالرب وتقبّل مرضها كتعبيرعن مشيئته لخيرها كما لخير الجميع. لطالما رددت العبارة التالية:" إن كان هذا ما تريده يا يسوع، فأنا أريده أيضًا
هاتان ليستا إلا شهادتين من بين عدة شهادات أخرى، تظهر أن المسيحي الحقيقي لا يفقد الأمل أبدًا ولا يحزن حتى عندما يواجه أشد الصعوبات، كما تبيّن أن الفرح المسيحي ليس هروبًا من الواقع بل هو سلاح قوي لمواجهة صعوبات الحياة اليومية وتخطيها
نحن نعلم بأن المسيح صُلب وقام من الموت وهو الآن معنا، هو الصديق المُخلِص دائما. عندما نشاركه آلامه نشاركه مجده. به ومعه تحولت الآلام إلى حب وهناك يكمن الفرح. (راجع كولوسي 1، 24
7. شهود الفرح
في الختام، أيها الأصدقاء، أريد أن أحثكم على أن تكونوا مبشّري الفرح. لا يمكننا أن نكون فرحين إن لم يكن الآخرون كذلك: علينا أن نتقاسم الفرح. إذهبوا وأخبروا الآخرين عن فرحكم بإيجاد هذا الكنز الذي هو يسوع المسيح نفسه. لا تحتفظوا بفرح الإيمان لأنفسكم: لكي يستمر فيكم، عليكم بنقله للآخرين، فالقديس يوحنا يؤكد ذلك في رسالته الأولى: " الذي رأيناه وسمعناه نبشركم به لتكونوا أنتم أيضا شركاءنا (...) نكتب إليكم بهذا ليكون فرحنا كاملا." (يوحنا الأولى 1: 3، 4
أحيانا تُعطى صورة عن المسيحية وكأنها حياة تقمع حريتنا وتتعارض مع رغبتنا بالسعادة، ولكن هذا ليس صحيحًا! المسيحييون هم رجال ونساء سعداء لأنهم يعلمون بأنهم ليسوا لوحدهم وهم محاطون دائما بيديّ الله! هذا يتطلب منكم أنتم بالأخص، يا تلاميذ المسيح الشباب، أن تظهروا للعالم أن الإيمان يجلب سعادة وفرح حقيقيين ودائمين. إذا بدت في بعض الأحيان الحياة المسيحية متعبة ومملة، إشهدوا أنتم أولا للوجه الفرِح والسعيد للإيمان. الإنجيل هو "البشرى السارة" من خلاله يعلمنا الله بأنه يحبنا وكل واحد منا مهم بالنسبة له: إذا أظهروا للعالم ذلك
كونوا مرسلين متحمسين للتبشير الجديد! أعلموا أولئك الذين يعانون ويبحثون عن الفرح أن يسوع جاهز دائما للعطاء. إحملوا هذه البشارة في عائلاتكم، ومدارسكم، وجامعاتكم، ومكان عملكم، وبين أصدقائكم، وفي الأماكن التي تسكنونها. عندها سترون بأنها ستنتشر بسرعة، حينها فرح الخلاص ورؤية رحمة الله تعمل في القلوب سيعودان عليكم أضعافًا وأضعاف، ويوم لقائكم المحتوم مع الرب سيقول لكم: " أيها الخادم الصالح الأمين، أدخل فرح سيدك!" (متى 25، 21
فلترافقكم العذراء مريم في طريقكم. هي التي اقتبلت مشيئة الرب فحملت بابنه وأعلنت البشرى بالتسبيح والفرح: " تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي" ( لوقا 1: 46، 47). استجابت مريم بالكامل لحب الله مكرسة حياتها له في خدمة متواضعة وكلية. نتضرع إليها قائلين " يا سبب سرورنا" لأنها أعطتنا يسوع. أطلب منها أن تقدم لكم هذا الفرح الذي لا يمكن لأحد أن يسلبه منكم
أيها الأصدقاء الأعزاء
يسرني مرة جديدة أن أوجه إليكم كلمة بمناسبة اليوم العالمي السابع والعشرين للشبيبة. لا تزال ذكرى لقائي بكم في مدريد، في أغسطس الماضي تراودني حتى اليوم، فلقد أمضينا خلاله وقتًا إستثنائيًا نلنا فيه النعم كما بارك الله الشباب الذين حضروا من كافة أقطارالعالم. أشكر الله على كل ما أنتجته تلك اللقاءات التي بالتأكيد ستبرز ثمارها في مستقبل الشباب والمجتمعات التي ينتمون إليها. نحن اليوم بانتظار اللقاء القادم في ريو دي جانيرو في سنة 2013 تحت شعار: " إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم" (راجع متى 28، 19
أما موضوع يوم الشبيبة العالمي لهذه السنة فقد استوحيته من رسالة القديس بولس إلى أهل فيليبي: " إفرحوا دائما في الرب! "( فيليبي 4،4)، فالفرح في الواقع هو عنصر أساسي من التجربة المسيحية، وخلال كل لقاء عالمي للشبيبة، نعيش تجربة فرح كبيرة، كفرح الشراكة، وفرح الإيمان وفرحنا بكوننا مسيحيين. هذه سمة من سمات هذه اللقاءات ونحن نلاحظ كم يجذب هذا الفرح: في عالم يتسم في معظم الأوقات بالتعاسة والهموم، يشكل الفرح له شهادة تحمل في طياتها جمال الإيمان المسيحي وحقيقة أنه جدير بالثقة
أما رسالة الكنيسة فهي أن تزرع الفرح في العالم، فرح حقيقي يستمر كالفرح الذي أعلنه الملائكة لرعاة بيت لحم ليلة ولادة المسيح ( لوقا 10،2): الله لم يتكلم سدى، ولم يخلّف علامات عجائبية في تاريخ البشرية فحسب بل جعل نفسه قريبا جدا إلى حد أنه تجسد لأجلنا واختبر جميع مراحل الحياة الإنسانية. في هذه الأوقات الصعبة، كثير من الشباب حولكم بحاجة ماسة ليعلموا أن الرسالة المسيحية هي رسالة حب ورجاء. أود أيضا أن نفكر سوية بهذا الفرح، وبالطرق التي يمكننا أن نجده بها حتى تتمكنوا من عيشه بعمق أكثر فأكثر وتكونوا رسلًا من حولكم
1. قلبنا هيكل للفرح
طُبعت الرغبة بالفرح في قلب الإنسان. بعيدًا عن الملذات العابرة، يسعى قلبنا للحصول على الفرح العميق، الكامل والدائم الذي بإمكانه أن يعطي "طعمًا" للوجود. هذا بخاصة ينطبق عليكم، فالشباب هو فترة من الإكتشاف المستمر للحياة، والعالم، والآخرين، والذات. هذا وقت للإنفتاح على المستقبل حيث تقبع الرغبات الكبيرة للسعادة، والصداقة، والمشاركة، والحقيقة، ونهدف إلى الأمثل ونتخيّل مشاريع متعددة. يمنحنا الرب في كل يوم أفراحًا بسيطة ومنها: فرح الحياة، فرح العمل المتقن، فرح الخدمة، وفرح الحب الحقيقي والنقي. أما إذا فكرنا جيدا، فنجد أن لدينا أسبابًا أخرى للفرح ألا وهي: اللحظات الجميلة التي نعيشها في الأسرة، والصداقة المشتركة، واكتشاف قدراتنا الشخصية وإنجازاتنا الخاصة، ومديح الآخرين لنا، وقدرة التعبير والإقناع، وشعورنا بأننا مفيدين للآخرين. يضاف إلى كل ذلك المعرفة الجديدة التي ننالها بالدراسة، واكتشاف أبعاد جديدة من خلال السفر واللقاءات، والقدرة على وضع خطط للمستقبل، ولكن أيضًا قراءة عمل أدبي، والتأمل بتحفة فنية، والإستماع إلى الموسيقى أو حتى عزفها، كل هذا يزرع في داخلنا أفراحًا حقيقية. مع ذلك، نواجه كل يوم مصاعب جمّة، وقلوبنا يسيطرعليها القلق تجاه المستقبل، مما يدفعنا لنتساءل إن كان هذا الفرح الدائم الذي نطمح إليه مجرد وهم وهروب من الواقع
كثير من الشباب يسألون أنفسهم : هل الفرح المثالي موجود حقا؟ ويبحثون عنه بطرق مختلفة وفي بعض الأحيان بطرق خاطئة أو على الأقل خطيرة. كما يسألون أيضًا: كيف نميز بين الأفراح الحقيقية الدائمة واللذات العابرة والمزيفة؟ كيف نجد الفرح الحقيقي في الحياة، هذا الذي يدوم ولا يتخلى عنا أبدا حتى في الأوقات الصعبة؟
2. الله هو مصدر الفرح الحقيقي
في الواقع، إن الأفراح الحقيقية أكانت أفراحًا صغيرة يومية أم أفراح كبيرة في الحياة، جميعها مصدرها الله حتى ولو لم يَظهر لكم ذلك على الفور. السبب أن الله هوشركةحب أبدي، وهو فرح لامتناه ليس منغلقا على نفسه بل ينتشر في قلوب الذين يحبهم ويحبونه. خلقنا الله على صورته و مثاله ليحبنا ويغمرنا بفيض نعمه. يريدنا أن نشاركه فرحه الإلهي الأبدي كما يريدنا أن نكتشف أن معنى حياتنا وأهميتها يكمن في قبوله، وحبه، ولقياه لنا، فلقيا الله ليس مجرد لقاء عادي وعابر كلقيا البشر بل هو لقاء إلهي غير مشروط: الله يريدني ويحبني، ولديّ مكانتي في العالم والتاريخ. إن قبلني الله وأحبني، وهو كذلك طبعًا، عندها أكون واثقا كل الثقة بأنني محظوظ في وجودي على هذه الأرض. حب الله اللامحدود لنا تجلى بأوضح صورة بيسوع المسيح، فيه يكمن الفرح الذي نسعى إليه. نجد في الإنجيل كيف أن الأحداث التي تشكل بداية حياة يسوع تتسم بالفرح، كحين بشر الملاك جبرائيل مريم العذراء بأنها ستكون أم المخلص بدأ بهذه الكلمات: " إفرحي!" ( لوقا 28،1) وعند ولادة المسيح قال ملاك الرب للرعاة: " ها أنا أبشركم بخبرعظيم يفرح له جميع الشعب: ولد لكم اليوم مخلص هو المسيح الرب." (لوقا 11،2) والمجوس الذين كانوا يبحثون عن الطفل " لما رأو النجم فرحوا فرحًا عظيمًا جدًّا" (متى 10،2). سبب هذا الفرح هو قُرب الله منّا فلقد تجسد ليصبح إنسانا مثلنا. تكلم القديس بولس في رسالته إلى أهل فيليبي أيضا عن الفرح قائلا: " إفرحوا دائما في الرب، وأقول لكم أيضا: إفرحوا. ليشتهر صبركم عند جميع الناس. مجيء الرب قريب" (فيليبي 4:4-5 ). السبب الأول لفرحنا هو قربنا من الله الذي يحبنا ويحتضننا. في الواقع، يولد لدينا دائما فرح داخلي عندما نلتقي بيسوع، هذا مذكور أيضا في عدة آيات من الإنجيل. لنأخذ مثلا الزيارة التي قام بها يسوع لزكا جابي الضرائب الخاطىء وقال له: " سأقيم اليوم في بيتك" و زكا، كما يذكر لوقا البشير " استقبله بفرح." (لوقا 19: 5- 6). هذا هو فرح اللقاء مع المسيح والإحساس بمحبة الله التي يمكنها أن تغير كل الوجود وتحقق الخلاص للعالم. قرر زكا إذًا تغيير حياته وإعطاء نصف ما يملك للفقراء
يتجلى حب يسوع الكبير لنا في الآلام التي عاناها من أجلنا، ففي الساعات الأخيرة من تواجده على هذه الأرض جلس إلى العشاء مع تلاميذه وقال لهم: " أنا أحبكم مثلما أحبني الآب، فاثبتوا في محبتي(...) قلت لكم هذا ليدوم فيكم فرحي، فيكون فرحكم كاملا" (يو 15: 9 ،11). يريد المسيح أن يحقق تلاميذه كما كل واحد منا الفرح الكامل، هذا الفرح الذي يتشاركه مع أبيه، لتظهر فينا محبة الله له (راجع يو 17 ، 26). الفرح المسيحي هو في الإنفتاح على حب الله وتسليم الذات له
يخبرنا الإنجيل أن مريم المجدلية ونساء أخريات جئن لزيارة القبر فأخبرهن الملاك بقيامة المسيح من بين الأموات، فتركن القبر مسرعات "في خوف وفرح عظيمين" وذهبن يحملن الخبر السار إلى التلاميذ، فلاقاهن المسيح وقال لهن: "السلام عليكن!" (متى 28،9:8)، لقد نلن فرح الخلاص: المسيح حي، لقد غلب الشر، والخطيئة، والموت، وهو معنا طوال الأيام إلى انقضاء الدهر (راجع متى 20،28). لن يسيطر الشر على حياتنا لأن إيماننا بالمسيح المخلص يخبرنا بأن حب الله ينتصر دائما. هذا الفرح العميق هو ثمرة الروح القدس الذي يجعلنا أبناء الله، نلمس طيبته ونعيشها، ونناجيه قائلين "أبا"، يا أبانا ( راجع روما 15،8). الفرح هو علامة لوجود الله فينا وفي أعمالنا
3. إحفظوا الفرح المسيحي في قلوبكم
نحن نتساءل اليوم: كيف نستطيع أن نتلقى ونحافظ على هذه الهبة ألا وهي الفرح العميق والفرح الروحي؟ يقول المزمور: "تلذذ بالرب فيعطيك سؤل قلبك" (مزمور 36 ،4) ويشرح المسيح قائلا: "ويشبه ملكوت السماوات كنزًا مدفونًا في حقل، وجده رجل فخبأه، ومن فرحه مضى فباع كل ما يملك واشترى ذلك الحقل" (متى 13، 44). إن إيجاد الفرح الروحي والمحافظة عليه ينبع من اللقاء مع الرب الذي يطلب منا أن نتبعه متخذين خيارًا حاسمًا بتكريس حياتنا له
أيها الشباب، لا تخافوا بأن تكرسوا حياتكم للمسيح ولإنجيله: هذا هو السبيل لتحقيق السلام والسعادة الحقيقية في عمق قلبنا، وبهذا نحقق وجودنا كأبناء لله الذي خلقنا على صورته ومثاله. إفرحوا دائما في الرب: الفرح هو ثمرة الإيمان، هو أن نلمس كل يوم حضوره ومحبته: " مجيء الرب قريب" ( فيليبي 4 ، 5 ). ضعوا ثقتكم دائما به، هكذا تنمون في معرفته وحبه. " سنة الإيمان" التي نحن قادمون عليها، ستساعدنا وتشجعنا
أيها الأصدقاء، تعلموا أن تلمسوا عمل الله في حياتكم، اكتشفوا وجوده في عمق أعمالكم اليومية. آمنوا بأنه وفيّ دائما للعهد الذي ختمكم به يوم عمادكم واعلموا بأنه لن يتخلى عنكم أبدًا. إرفعوا عيونكم إليه، هو الذي أحبكم بذل نفسه لأجلكم على الصليب. إن التأمل بحب عظيم كهذا، يزرع في قلوبنا رجاءً وفرحًا لا يغلبهما شيء. لا يمكن أن يحزن المسيحي عندما يلتقي بيسوع الذي بذل نفسه لأجله
إبحثوا عن الرب، فإن قبلناه في حياتنا يعني حتما بأننا استقينا كلمته التي هي فرح قلبنا. يقول النبي إرميا: " وُجد كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي" ( إرميا 15، 16). تعلموا قراءة الكتاب المقدس والتأمل به، هناك تجدون الجواب لأسئلتكم العميقة عن الحقيقة التي تشغل قلبكم وعقلكم، فكلمة الله تجعلنا نكتشف العجائب التي أنجزها الله في تاريخ البشر وتدفعنا لتسبيحه وعبادته ونحن ممتلئين فرحًا: "هلموا نرنم للرب...هلموا نسجد ونركع أمام الرب صانعنا" (مزمور 94 1، 6). القداس هو بامتياز المكان الذي يتم فيه التعبير عن هذا الفرح الذي تغرفه الكنيسة من الرب وتنقله للعالم. هكذا تحتفل الطوائف المسيحية كل أحد خلال الإفخارستيا بسر الخلاص ألا وهو موت وقيامة المسيح. هذه هي اللحظة الأساسية التي تبدأ بها رحلة كل تلميذ للرب، فبها تتجلى تضحيته من كثرة حبه لنا. هذا هو اليوم الذي نجتمع فيه مع المسيح القائم من الموت حيث نسمع كلامه ونتناول جسده ودمه ويقول المزمور: "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب فلنبتهج ولنتهلل فيه" ( مز24،117) وعشية أحد القيامة تتهلل الكنيسة بانتصار يسوع المسيح على الخطيئة والموت: "إفرحي يا أجواق الملائكة.. وابتهجي أيتها الأرض التي لطالما عانت من الحروب..وليصدع في هذه المسكونة صدى تهليل الشعوب ". الفرح المسيحي هو أن يحبنا الله الذي تجسد لأجلنا وبذل نفسه عنا فيجب أن نعيش حبًا به فنذكر ما كتبت القديسة تيريزيا الطفل يسوع: " يسوع فرحي أن أحبك.
4. فرح المحبة
أصدقائي الأعزاء، الفرح مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمحبة: "أما ثمر الروح فهو المحبة والفرح.." (راجع غل 5، 23). الفرح هو نتيجة الحب وشكل من أشكاله. أشارت الأم تيريزا إلى كلمات المسيح: "تبارك العطاء أكثر من الأخذ" ( أعمال الرسل 20، 35) بقولها: "الفرح هو سلسلة من الحب، لكسب النفوس. الله يحب من يعطي بفرح. والذي يعطي بفرح يعطي أكثر فأكثر." وكتب خادم الله بولس السادس: "بالله نفسه، كل شيء هو فرح لأن كل شيء هو عطاء" ( الإرشاد الرسولي "افرحوا بالرب"، 9 مايو 1975
بعد أن أدركتُ مختلف أنماط حياتكم، أريد أن أقول لكم أن الحب يتطلب الثبات والإخلاص في الإلتزامات التي تقطعونها. هذا ينطبق في بادىء الأمر على الصداقات، فأصدقاؤنا يتوقعون منا أن نكون مخلصين ووفيين لأن الحب الحقيقي يثابر بخاصة في الضيقات. كذلك ينطبق الأمر على العمل، والدراسات، والخدمات التي تقدمونها. الإخلاص والمثابرة في عمل الخير يقودان للفرح حتى ولو لم يظهر ذلك على الفور. لاختبار فرح الحب، نحن مدعوون أيضا إلى أن نكون كرماء، وليس أن نعطي القليل بل أن نشارك مشاركة كاملة في الحياة مع إيلاء اهتمام خاص للفقراء. يحتاج العالم إلى نساء ورجال مثابرين ومخلصين يهبون أنفسهم لخدمة الخير العام. أقول لكم التزموا وادرسوا بجدّ، نموا مواهبكم وضعوها من اليوم في خدمة القريب، حيثما كنتم، إبحثوا عن كيفية المساهمة لجعل المجتمع أكثر عدلا وإنسانية. فلتقود روح الخدمة حياتكم ولا تبحثوا عن السلطة، ولا عن النجاح المادي ولا عن المال
أما بالنسبة إلى الكرم فلا يمكنني إلا أن أذكر هذا الفرح المميز ألا وهو فرح تسليم الذات بكليّتها للرب. أيها الشباب لا تخافوا من دعوة المسيح لكم إلى الحياة المكرسة، أوالرهبانية، أوالتبشيرية أوالكهنوتية. كونوا على يقين بأنه يغمر بالفرح الذين يكرسون حياتهم له ويلبون دعوته بترك كل شيء والبقاء معه ووضع أنفسهم بخدمة الآخرين. كذلك، عظيم هو الفرح الذي يحيط به الرجل والمرأة اللذين يتحدان بالزواج لتأسيس عائلة فيشكلان علامة حب المسيح لكنيسته
إسمحوا لي بأن أشير إلى عنصر ثالث للحصول على فرح الحب: إجعلوا الشركة الأخوية تنمو في حياتكم ومجتمعكم. هناك رابط قوي بين الشركة والفرح: فليس من باب الصدفة أن تكون عظة مار بولس قد صيغت بصفة الجمع: " إفرحوا دائما في الرب!" (فيليبي 4،4). معًا فقط يمكننا أن نختبر هذا الفرح بعيشنا الشركة الأخوية. يشرح كتاب أعمال الرسل عن أول مجتمع مسيحي: " يكسرون الخبز في البيوت، ويتناولون الطعام بفرح وبساطة قلب" (أعمال الرسل 2 ، 46). أنتم أيضا إسعوا لأن تكون المجتمعات المسيحية أماكن مميزة للمشاركة، والاهتمام ولخدمة بعضكم البعض
5. فرح التوبة
أيها الأصدقاء، لعيش الفرح الحقيقي، عليكم أن تدركوا ما هي الإغراءات التي تكبّلكم. غالبًا ما تدفعكم الثقافة الحالية إلى تحقيق أهداف وملذات عابرة وبذلك هي تُغلّب عدم الإستقرار على المثابرة في الجهد والإخلاص للإلتزامات. إن الرسائل التي تتلقونها تحثكم على الإستهلاك وتقطع عليكم وعود سعادة كاذبة، ولكن التجربة تدل على أن التملك لا يتماشى والفرح: كثيرون هم الأشخاص الذين لا يفتقرون للماديات ولكن يتملكهم اليأس والحزن ويشعرون بالفراغ في حياتهم. لتبقى فينا المحبة، نحن مدعوون لكي نعيش الحب والحقيقة في الله
يريدنا الله أن نكون سعداء، لهذا السبب زوّدنا بتوجيهات لكي لا نضل طريقنا ألا وهي: الوصايا، فإذا عملنا بها أرشدتنا إلى طريق الحياة والسعادة. للوهلة الأولى يمكننا أن نشعر بأنها مجموعة من المحظورات تكبّل حريتنا، ولكن إن تأملنا بها قليلًا على ضوء رسالة المسيح، فسنجد بأنها مجموعة من القواعد الأساسية والقيّمة للحياة تجعلنا نعيش وفق مخطط الله لنا، ولكن على العكس إن قمنا ببناء أي شيء متجاهلين الله وإرادته سنسبب لأنفسنا خيبة أمل كبيرة وتعاسة كما سنختبر معنى الفشل. أما تجربة الخطيئة نتيجة لرفضنا اتباع يسوع ورفضنا محبته، فستجعل الظلمة تخيم على قلوبنا
إذا كان طريق المسيحية وعرًا وواجه الإلتزام بالإخلاص لمحبة الرب صعوبات أو انتكاسات، كونوا على ثقة أن الله الرحوم لن يتخلى عنكم، فهو يعطينا دائما الفرصة للعودة اليه واختبار فرح حبه الذي يسامح الجميع ويستقبلهم من جديد
أيها الشباب، إلجئوا دوما إلى سر التوبة والمصالحة فهذا هو سر الفرح. تقدموا إليه دائما بصفاء، وثبات، وثقة واطلبوا من الروح القدس أن ينوّركم لتعترفوا بخطاياكم وتلتمسون المغفرة من الله. سيحتضنكم الله دائما، وسيطهّركم ويجعلكم تدخلون فرحه: " هكذا يكون الفرح في السماء بخاطىء واحد يتوب" (لوقا 7،15
6. الفرح في وقت الضيق
هناك سؤال لا يفارق تفكيرنا: هل يمكننا أن نعيش الفرح في خضم تجارب الحياة ولا سيما الأكثر إيلاما منها وغموضا؟ هل اتباع الرب والإيمان به يؤمنان لنا السعادة دائما؟
استقينا الإجابة من تجارب شباب مثلكم فهم وجدوا في المسيح النور الذي يمنحهم القوة والرجاء حتى في أصعب لحظات حياتهم. خاض الطوباوي بيار جورجيو فراساتي عدة تجارب في حياته القصيرة على الأرض، منها تجربة سيئة في حياته العاطفية جرحته في الصميم، فراسل أخته قائلا: "تسألينني إذا كنت فرحًا. كيف لا يمكنني ألا أكون؟ أنا فرح ما دام الإيمان يمدني بالقوة! لا يمكن لأي كاثوليكي أن يكون حزينا(...) الهدف الذي خلقنا لأجله يظهر لنا أن طريقنا مزروع بالأشواك ولكنه ليس طريقا حزينا: يبقى طريق فرح حتى من خلال المعاناة" ( رسالة إلى أخته لوشانا، تورينو، 14 فبراير 1925) والطوباوي يوحنا بولس الثاني كان يضرب المثل فيه قائلا: " كان شابا يشع فرحا يساعده على تخطي صعوبات حياته" ( كلمة للشباب، تورينو، 13 أبريل 1980). أما الأقرب إلينا فهي الشابة كيارا بادانو( 1971-1990) التي طُوبت حديثا، فهي اختبرت كيف يمكن للحب أن يغير الألم ويحوله إلى فرح دائم. كيارا، البالغة من العمر 18 سنة وبينما هي على صراع مع المرض، طلبت من الروح القدس شفيع حركة الشباب أن يشفيها كما تضرعت للرب ليرسل روحه في الشباب فيُنير عقولهم ويمنحهم الحكمة. لقد كتبت قائلة: " كانت حقا لحظة منحني إياها الله، كنت أعاني من آلام جسدية كثيرة، ولكن روحي كانت تهلل." ( رسالة إلى كيارا لوبيك، ساسيللو، 20 ديسمبر 1989). كان سر سلامها وفرحها يكمن في ثقتها العمياء بالرب وتقبّل مرضها كتعبيرعن مشيئته لخيرها كما لخير الجميع. لطالما رددت العبارة التالية:" إن كان هذا ما تريده يا يسوع، فأنا أريده أيضًا
هاتان ليستا إلا شهادتين من بين عدة شهادات أخرى، تظهر أن المسيحي الحقيقي لا يفقد الأمل أبدًا ولا يحزن حتى عندما يواجه أشد الصعوبات، كما تبيّن أن الفرح المسيحي ليس هروبًا من الواقع بل هو سلاح قوي لمواجهة صعوبات الحياة اليومية وتخطيها
نحن نعلم بأن المسيح صُلب وقام من الموت وهو الآن معنا، هو الصديق المُخلِص دائما. عندما نشاركه آلامه نشاركه مجده. به ومعه تحولت الآلام إلى حب وهناك يكمن الفرح. (راجع كولوسي 1، 24
7. شهود الفرح
في الختام، أيها الأصدقاء، أريد أن أحثكم على أن تكونوا مبشّري الفرح. لا يمكننا أن نكون فرحين إن لم يكن الآخرون كذلك: علينا أن نتقاسم الفرح. إذهبوا وأخبروا الآخرين عن فرحكم بإيجاد هذا الكنز الذي هو يسوع المسيح نفسه. لا تحتفظوا بفرح الإيمان لأنفسكم: لكي يستمر فيكم، عليكم بنقله للآخرين، فالقديس يوحنا يؤكد ذلك في رسالته الأولى: " الذي رأيناه وسمعناه نبشركم به لتكونوا أنتم أيضا شركاءنا (...) نكتب إليكم بهذا ليكون فرحنا كاملا." (يوحنا الأولى 1: 3، 4
أحيانا تُعطى صورة عن المسيحية وكأنها حياة تقمع حريتنا وتتعارض مع رغبتنا بالسعادة، ولكن هذا ليس صحيحًا! المسيحييون هم رجال ونساء سعداء لأنهم يعلمون بأنهم ليسوا لوحدهم وهم محاطون دائما بيديّ الله! هذا يتطلب منكم أنتم بالأخص، يا تلاميذ المسيح الشباب، أن تظهروا للعالم أن الإيمان يجلب سعادة وفرح حقيقيين ودائمين. إذا بدت في بعض الأحيان الحياة المسيحية متعبة ومملة، إشهدوا أنتم أولا للوجه الفرِح والسعيد للإيمان. الإنجيل هو "البشرى السارة" من خلاله يعلمنا الله بأنه يحبنا وكل واحد منا مهم بالنسبة له: إذا أظهروا للعالم ذلك
كونوا مرسلين متحمسين للتبشير الجديد! أعلموا أولئك الذين يعانون ويبحثون عن الفرح أن يسوع جاهز دائما للعطاء. إحملوا هذه البشارة في عائلاتكم، ومدارسكم، وجامعاتكم، ومكان عملكم، وبين أصدقائكم، وفي الأماكن التي تسكنونها. عندها سترون بأنها ستنتشر بسرعة، حينها فرح الخلاص ورؤية رحمة الله تعمل في القلوب سيعودان عليكم أضعافًا وأضعاف، ويوم لقائكم المحتوم مع الرب سيقول لكم: " أيها الخادم الصالح الأمين، أدخل فرح سيدك!" (متى 25، 21
فلترافقكم العذراء مريم في طريقكم. هي التي اقتبلت مشيئة الرب فحملت بابنه وأعلنت البشرى بالتسبيح والفرح: " تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي" ( لوقا 1: 46، 47). استجابت مريم بالكامل لحب الله مكرسة حياتها له في خدمة متواضعة وكلية. نتضرع إليها قائلين " يا سبب سرورنا" لأنها أعطتنا يسوع. أطلب منها أن تقدم لكم هذا الفرح الذي لا يمكن لأحد أن يسلبه منكم