الرُّوح القدس في الليتورجيَّا البيزنطيَّة
توطئة
لقد أردت في دراستي هذه حول الرُّوح القدس في الليترجيَّا البيزنطيَّة التَّركيز على دور الثَّالوث الأقدس في سرّ الخلاص وبالأخصّ دور الرُّوح القدس المنبثق من الآب والمسجود له، الَّذي له الحصَّة الكبرى في ليترجيَّا الكنيسة العظمى البيزنطيَّة؛ وللوصول إلى مرحلة أقدر فيها على الصَّلاة بشكل أعمق وأحرّ، متذكِّرًا دور الرُّوح القدس الَّذي ننسى دوره في بعض الأحيان، خصوصًا في الطروباريَّات وفي القدَّاس الإلهي وهذا ما دفعني لاختيار هذا الموضوع الشيِّق والعميق في مضمونه
مقدِّمة
"في الاحتفال بالأسرار المقدّسة يُظهِر التَّقليد المقدَّس قوَّته المحيية"[1]، وقوَّة الرُّوح القدس أي "الذَّاكرة الحيَّة للقائم من بين الأموات"[2]، فلمعرفة دور الرُّوح القدس في الليتورجيا البيزنطيَّة، كان بالإمكان اللجوء إلى العديد من المقاربات البانوراميَّة: الأعياد الرَّئيسيَّة في السَّنة الليترجيَّة؛ ميستاغوجيا الليتورجيَّا الإلهيَّة والأسرار الكبرى؛ رمزيَّة الرُّوح القدس في الكتب المقدَّسة والاحتفالات الأسراريَّة والايكونوغرافيا؛ الاستدعاءات الخاصَّة بكل سرّ، سينرجيات[3] الرُّوح القدس والجماعة الكنسيَّة؛ فاخترت مقاربتين تبدوان أكثر تعبيرًا عن وجود الرُّوح القدس في الليترجيَّة البيزنطيَّة: ما يُقال عن الرُّوح القدس، بشكل إعلان للإيمان العقائديّ، في مجموعات عديدة من الطروباريَّات الاستثنائية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ما يحقِّقه الرُّوح القدس في الاحتفال الأمثل بالأسرار المقدَّسة، أي في الليترجيَّة الإلهيَّة الخاصَّة بالإفخارستيَّا
أولاً: في طروباريَّات الرُّوح القدس
إن الطروباريَّات الَّتي يرد فيها ذكر الرُّوح القدس في الطَّقس البيزنطيّ لا عدّ لها، فيظهر بدقَّة أن الأمر يتعلّق ببعض الطروباريَّات (سبع وعشرين بالتَّحديد) التي يمتاز محتواها بكثافة لاهوتيَّة نادرة وتشكِّل صيغتها تأكيدًا عقائديَّاً لا مجرَّد صلاة
أنافثمي الآحاد
الأنافثمي هي التَّرجمة اليونانيَّة للسبعينيَّة لمزامير "المراقي"[4]. فخلال صلاة السَّحر، تُنشد قبل قراءة إنجيل القيامة، وتتألَّف كلّ واحدة من هذه المراقي من ثلاث أنديفونات تختتم كلّ منها، بعد التَّمجيد الثَّالوثيّ، بطروباريَّة موجزة مخصَّصة للرُّوح القدس، ومن المعروف أيضًا بالبصلتيكا[5] البيزنطيَّة أنَّها تخصِّص لكلّ يوم أحد لحنًا موسيقيًّا بحسب دورة من ثمانية ألحان أكتويخوس[6] الآحاد، فيصبح المجموع الكامل هو خمسٌ وعشرون طروباريَّة للرُّوح القدس على عدد الأحرف الأبجديَّة اليونانيَّة، إذا أُضيفت أنديفونة رابعة للَّحن الثَّامن
طروباريَّتان من سحر العنصرة
هناك طروباريَّتان لهما الفحوى العقائديَّة نفسها، وهما تُرتَّلان ضمن التَّهاليل الصَّباحيَّة في سحر العنصرة وهذا نصُّهما: "إن الرُّوح القدس كان دائمًا ويكون وسيكون، لأنَّ ليس له ابتداء ولا انتهاء، لكنَّه دائمًا منتظم ومعدود مع الآب والابن. وهو حياة ومحيي، نورٌ وواهب النُّور، صالحٌ بالطَّبع وينبوع الصَّلاح، به يُعرف الآب، ويمجَّد الابن، ويفهَم الكلُّ أن الثَّالوث المقدَّس قوَّة واحدة، ورتبةٌ واحدةٌ، وسجدةٌ واحدةٌ"
" إن الرُّوح القدس نور وحياة وينبوع حيّ عقليّ، روح حكمة، روح فهم، صالح مستقيم عقليّ مرشد، مطهِّر للهفوات، إله ومؤلِّه، نار صادرة من نار، متكلِّم فاعل موزِّع للمواهب. به تكلّل جميع الأنبياء ورسل الله الشُّهداء، هي سمعة غريبة، رؤية غريبة، نار مقسومة لتوزيع المواهب"
ملاءمتهما الليترجيَّا
إن "النَّوع الليترجيّ" لهاتين الطروباريَّتين نادر في الأناشيد البيزنطيَّة، ومثير للدَّهشة. فمثل هذه الكثافة العقائديَّة المسكوبة في شاعريَّة بسيطة ودون بلاغة متعمَّدة، يمكنها أن تجعلنا نستشفّ ملاءمة هذا النَّوع الليترجيّ، الملائم للرُّوح القدس؛ إذ الصَّلاة الليترجيَّة لا يمكنها أن تكون مستوحاة من معنى السِّر، إلاَّ إذا تأَصَّلت في تجرُّد الرُّوح في قلب كيان الكنيسة؛ وهكذا نستطيع أن نفهم لماذا أسماء الرُّوح القدس والأفعال المنسوبة إليه في الطروباريتيَّن مأخوذة كلّها من الكتب المقدَّسة. وربط هذه الأسماء والأفعال هو تأمُّل لاهوتيّ لا مجرَّد تعليق، لأن طابعهما العقائديّ، من دون البرودة الجوهريَّة للتَّعريفات المجمعيَّة. إذ إن الطروباريَّتين الموجَّهتين إلى الرُّوح القدس هما أساسًا، صلوات صغيرة تمجيديَّة، لأنّ في التَّمجيد تعبِّر الليتورجيَّا أفضل ما تعبِّر عن إيمان الكنيسة المصلِّية. وبسبب الدِّقة العقائديَّة في هاتين الطروباريَّتين الرُّوحيَّتين، نحاول مقارنتهما بنوعَين آخرين من الأناشيد البيزنطيَّة: "الدُّوغماتيكا" من جهة، وهي الأناشيد الموجَّهة إلى والدة الإله التي ترتَّل في غروب يوم السَّبت، وفيها عصارة الإيمان الكريستولوجيّ، ومن جهة أخرى القوانين الثَّالوثيَّة لرتبة نصف ليل الأحد، حيث يتنافس في الشَّاعريَّة تسبيح الثَّالوث مع شقاء القلب المسكين الواثق الَّذي يقدّم له العبادة. وهذه التَّآليف الثَّلاثة، اتَّخذت شكلها النِّهائيّ تقريبًا في القرن التَّاسع، بعد انتصار الأرثوذكس على محاربي الأيقونات، فهؤلاء المؤلِّفون هم شهود ثمينون للتَّقليد الآبائيّ العَظيم؛ فيُلاحظ تناغم التَّقليد بين لاهوت الثَّالوث ولاهوت المسيح ولاهوت الرُّوح القدس. إنه تناغم"قانون الإيمان" فالإيمان الَّذي أعلنته المجامع الكُبرى والآباء يُعبَّر عنه في الليتورجيَّا
ثانياً: عمل الرُّوح القدس في الليترجيَّا
كيف تقول الكنائس ذات التَّقليد البيزنطيّ حول "من هو الرُّوح القدس؟"
التَّمجيد دائمًا ثالوثيّ، وهو يُظهر الإيمان المستقيم كما يوحي به الكتاب المقدَّس وتعلنه المجامع المسكونيَّة في التَّقليد الرَّسوليّ. لذلك فإن الطروباريَّات الأكثر دلالة الَّتي احتفظنا بها هي إعادةُ صياغة موجزة لقانون إيمان نيقيا – القسطنطينيَّة المتعلِّق باللاهوت: الرُّوح القدس "ربّ، محيي، منبثق من الآب والابن مسجود له وممجَّد"ولكن، "من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا"، أي في أحداث "تدبير السِّر"[7]، ومن دون انفصال عن اللاهوت، يظهر الرُّوح القدس؛ ونستطيع أن نعرفه بما يحقِّقه؛ فيوم العنصرة، يفتتح الرُّوح القدس الأزمنة الأخيرة، التي تمَّت نهائيَّاً في المسيح هي، في الرُّوح القدس، عاملة منذ الآن، ومن الآن فصاعداً، فالتَّدبير في الأزمنة الأخيرة أزمنة الكنيسة، هو أسراريّ لأنَّ الرُّوح القدس يعمل من خلال العلامات المحسوسة للأنتروبولوجيا الملموسة الخاصَّة بكل كنيسة
سأقتصر في تأمُّلي على اللِّيتورجيَّا الإلهيَّة، القدَّاس الإلهي، "سرّ الأسرار" ومن اللافت أن عمل الرُّوح القدس يُظهر على مدى الاحتفال الإفخارستيّ، تناغمًا مدهشًا، وهو بحقّ، الحدث الأساسيّ في الذَّبيحة الإفخارستيَّة، لكنَّ الاستدعاءات الأخرى الَّتي تسبقه وتلك الَّتي تليه، تدلّ على مستاغوجيا الرُّوح القدس في وحدة الاحتفال، ولا يمكن الابتهال إلى اسم يسوع، وفيه إلى الآب، إلاَّ بفعل الرُّوح القدس، وهذا يعني أن المسيح نفسه، وبنعمة صرف، يُرسل إلينا، في استدعائه، روحه القدُّوس. ولكن من ثم، بعد أن نتقبَّل الرُّوح القدس على مذبح اللِّيتورجيَّا ومذبح القلب، علينا أن نرضى بأن يحوِّلنا الرُّوح ويُماثلنا بالمسيح يسوع: أي أن نصير "تقدمة روحية"[8]. تُرضي الآب، إذ إنَّ ديناميَّة الشَّركة (كينونيَّا) هذه، هي في الحقيقة عمل الرُّوح القدس في الليتورجيَّا. لكي تصير في المسيح "تقدمةً روحيَّة" مرضيَّة لدى الآب
الاستدعاء على الكتب المقدَّسة
إن ذروة ليترجيَّا الموعوظين هي إعلان الإنجيل، بل "نصعد" نحو الإصغاء إلى الإنجيل بصلاة استدعائيَّة واضحة، حتى ولولم يرِد فيها صراحة ذكر الرُّوح القدس: "أيها السَيِّد المحبّ البشر، أضئ قلوبنا بصافي نور معرفتك الإلهيَّة، وافتح عيون أذهاننا لنفهم تعاليمك الإنجيليَّة". وهذا بالتَّحديد ما جرى مع تلميذَي عمَّاوس. كان يسوع يشرح لهما ذلك، وأصبح قلباهما "ملتهبين" بنار الرُّوح، وانفتحت أعينهما؛ فما يطلبه هذا الاستدعاء إذن هو مجيء الرُّوح القدس:"ولكن المؤيِّد"، الرُّوح القدس الَّذي يرسله الآب باسمي، هو يعلِّمكم جميع الأشياء ويذكِّركم بجميع ما قلته لكم، ويصيب "بول إفدوكيموف" إذ يسمِّي ذلك "الاستدعاء الكتابيّ" أي تحوّل الكتب تحوّلاً أسراريَّاً إلى كلمة الله الَّتي تُعطي غذاء"
عطيَّة السَّلام المثلَّثة
حالاً، قبل إعلان الإنجيل، يعطى السَّلام إلى الكنيسة مجتمعة، إذ لهذه العطيَّة دلالة على عمل الرُّوح القدس، فالسَّلام هو "ثمر الرُّوح"[9]، يُعطى السَّلام ثلاث مرَّات: أوَّلاً هنا، في ذروة ليترجيَّا الموعوظين، ثمَّ مباشرةً قبل تقدمة الذَّبيحة (الأنافورة أو النَّافور)، وأخيرًا في بداية ليترجيَّا المناولة لأن عطيَّة السَّلام هذه تُؤوِّن في الليتورجيَّا عطَّية سلام الرُّوح القدس الَّذي يُفيضه الرَّب القائم من الموت على التَّلاميذ في ما يسميِّه التَّقليد الأرثوذكسيّ "بالعنصرة اليوحنَّاويَّة"[10] إنه الكلام الأوَّل الَّذي يتفجَّر من قلب يسوع الغَالب الموت وهو يبلّغ إلى التَّلاميذ النَّفحة الإلهيَّة التي ستصنع منهم أعضاء جسده. "الرُّوح هو الَّذي يحتفل بالأسرار بيد الكاهن ولسانه"[11] وكعلامة على إرادة المؤمنين "في المحافظة على وحدة الرُّوح برباط السَّلام"[12]، بوسعهم أن يجيبوا حينئذ: "ومع روحك"
الطلبات من أجل المؤمنين
بعد الطّلبة المُلحَّة الَّتي ترفعها الكنيسة المحلّيَّة، تبدأ ليترجيَّا المؤمنين بالمعنى الصَّحيح للكلمة. "تقبَّل أللهمَّ طلبتنا، وأهِّلنا لأن نقدِّم لك طلبات وابتهالات وذبائح غير دمويَّة، لأجل شعبك كلّه. وبقدرة روحك القدُّوس، اجعلنا نحن الذَّين أقمتهم لخدمتك هذه، كفاةً لأن ندعوك في كلّ زمان ومكان، بلا دينونة ولا عثرة، وبشهادة ضميرنا الصَّالحة"[13]، "أنت قوِّنا على الخدمة، بقدرة روحك القدُّوس. وأعطنا كلامًا عند فتح أفواهنا، لنستدعي نعمة الرُّوح القدس على القرابين المزمعة أن تقدَّم"14]
تُبرز شهادة الليتورجيَّا البيزنطيَّة هذه، شهادة قويَّة جدًا إذ تبدو الطَّاقات الإلهيَّة الَّتي تظهر بالرُّوح القدس العامل في جسد المسيح، هي دائمًا عمل الشّركة؛ فالكينونيا هي في الوقت نفسه، عملُ الخدَّام وعمل الرُّوح القدس، لذلك فهي تَظهَر على الوجه الأمثل في الإفخارستيَّا
صلاة التَّقدمة
نحن على عتبة تقديم الذَّبيحة أو"الأنافورة أو النَّافور"، وفي صلاة استدعائيَّة أخيرة، يجتمع في ابتهالٍ واحدٍ إلى الآب، الخدَّام والقرابين المقدَّمة والشَّعب كلّه:"أيها الرَّب الإله القدير القدُّوس وحدك، القابل ذبيحة التَّسبيح من الَّذين يدعونك بكل قلوبهم، ... أهِّلنا لأن نُصيب حظوةً في عينيك، فتكون ذبيحتنا مرضيَّة لديك، ويستقرّ روح نعمتِك الصَّالح علينا وعلى هذه القرابين المقدَّمة وعلى شعبك كلِّه"[15
وفي قدَّاس باسيليوس الكبير، نجد عبارات مماثلة:"أيها الرَّب إلهُنا... إنك وضعتنا لهذه الخدمة بقدرة روحك القدُّوس ... إقبلنا بحسب عظيم رحمتك لنصير أهلاً لأن نقدِّم لك هذه الذَّبيحة الرُّوحيَّة عن خطايانا وجهالات الشَّعب. فاقبلها على مذبحك المقدَّس السَّماويّ رائحة طيِّبة، وأرسل عوضًا عنها نعمة روحك القدُّوس
الكنيسة الَّتي "ستصنع الافخارستيَّا"، هي بانتظار"العنصرة الإفخارستيَّة": وهي ترفع تضرُّعاتها نحو الآب، وتنتظر"بالمقابل" حلول المؤيِّد "برأفة ابنك الوحيد الَّذي أنت مبارَك معه ومع روحك القدُّوس الصَّالح والمحيي. وللمرَّة الثَّانية، يُعطى السَّلام لكي تتثبّت في شركة المحبَّة وحدةُ الإيمان "بالثَّالوث الواحد في الجَوهر وغير المنقسم"إذ إن الثَّالوث الأقدس يظهر ويؤوِّن بالاستعداد الإفخارستيّ الكبير
الرُّوح القدس والذّكر (أو الاستذكار
الليتورجيَّا الافخارستيَّة بكاملها هي استذكار لتدبير الخلاص، فالاستذكار يسترجع كل ما أتمَّه المسيح "مرَّة وإلى الأبد" إذ هو باقٍ للأبد، أمَّا العنصرة، فهي لا تضاف إلى فصح المسيح، ولكن الرُّوح القدس يظهرها ويؤوِّنها ويشركنا فيها بالعنصرة، في الافخارستيَّا، جديدة دائمًا في الاستذكار، فيذكِّرنا الرُّوح القدس بالحدث الفصحيّ، ليؤوِّنه مباشرة في الاستدعاء، ومن أجل أن تصبح الكنيسة أكثر فأكثر ما هي، في شركة سيِّدها المصلوب والقائم من بين الأموات، فيمكننا أن نستشعر كم أنَّ الرُّوح القدس هو " الذَّاكرة الحيَّة للكنيسة"،"يذكِّرنا"[16] بكل ما قاله يسوع وهو"يشهد"[17] اليوم معنا ليسوع، وهو "يخبر بما سيحدث" إذ إن هذا العمل الثَّالث لرسالة الرُّوح القدس الأخيريَّة (الاسكتولوجيَّة) هو الَّذي يفسِّر لنا لماذا يعلَن "المجيء الثَّاني الجديد والمجيد" في الاستذكار، فالمقصود ليس انتظار رجوعه فقط، ذاك الرُّجوع الَّذي لا نعرف يومه ولا ساعته، بل أن نعيشه اليوم، لأن جسده القائم من الموت هو غذاء "العالم الآتي" وعربون قيامتنا، فباختصار الاستذكار يجعلنا "معاصرين" للعمل العظيم الرَّائع الَّذي يحقِّقه الآب بواسطة مسيحه، لا كذكرى ولا كاستباق وهميّ بل "أسراريًا"، أي حقًا، ومن أجلنا، في الإيمان، "لأن الحقيقة هي جسد المسيح"[18]، إذن قدرة الرُّوح القدس في الاستذكار، توقظ وتفيض على مدى أبعاد السِّر، قوَّة إيماننا المتواضعة المسكينة الَّتي تسمَّى في حدث الإفخارستيَّا المركزيّ: الاستدعاء
استدعاء الكنيسة العظيم
بعد ثلاث مطانيَّات أمام المذبح، يرفع الكاهن ابتهالات الكنيسة، وهي تفوق بما لا يقاس ابتهالات إيليَّا أمام مذبح جبل الكرمل، لأنَّها ابتهالات المسيح نفسه، فيستعيد آخر الكلمات التي أنشدتها الجماعة: "وإليك نطلب، يا إلهنا"، فيقول:"إليك نطلب ونبتهل ونتضرَّع فأرسل روحك القدُّوس علينا وعلى هذه القرابين المقدَّمة، واجعل (+) هذا الخبز جسد مسيحك الكريم آمين، وما في هذه الكأس (+) دم مسيحك الكريم آمين، محوِّلاً إيَّاهما بروحك القدُّوس آمين، آمين، آمين. لكي يكونا للمتناولين منهما عفافًا للنَّفس، غفرانًا للخطايا، شركة الرُّوح القدس، كمالاً لملكوت السَّموات، دالَّة لديك، لا للدينونة أو الحكم عليهم"[19
ماذا يحدث في الاستدعاء؟ فيجيب القدِّيس يوحنَّا الدِّمشقي:" الرُّوح القدس يتدخَّل فجأة ويتمِّم ذلك التحوُّل الَّذي يفوق كلّ كلام وكلّ فكر (...) أن تسمع أنَّه بالرُّوح القدس كما من مريم العذراء وبالرُّوح القدس، اتَّخذ الرَّب، بنفسه وفي نفسه، جسداً"[20
"كيف يكون هذا؟"حينئذ، يأتي جواب الآب، فيرسل روحه ويتمّ وعده، وعندما "يتدخَّل" الرُّوح فجأة، يحمل معه الجدّة المثلى: المسيح. إنَّه لا يهدم شيئًا، ما خلا الموت والخطيئة الَّلذين هما كذبة العدم، بل "يحوّل" ما يقدم إلى قدرته: العذراء تحبل، جسد آدم الثَّاني يصير "روحًا محييًا" الكنيسة تولد إلى العالم، القرابين المقدَّسة تتحوَّل إلى حقيقة جسد المسيح
وأخيرًا، إنَّ الرُّوح القدس في حركة الاستدعاء المزدوجة، يعمل دائمًا في طاقة مشتركة (سينرجيا) لأنَّه روح الشَّركة، ففي الحركة الصَّاعدة إلى الآب، هو الَّذي يحمل إيمان مريم "الممتلئة نعمة"؛ وعندما يقرِّب المسيح نفسه إلى الآب فهو يفعل ذلك "بروح أزليّ"، وهو الَّذي يُبقي التَّلاميذ في الانتظار والرَّجاء؛ وهو الَّذي يجعل الكنيسة باستدعاءات تدريجيَّة في حالة تقدمة وابتهال. ولكن، بعد أن يحقِّق التحوّل ويؤوِّن سرّ المسيح، فهو يكمِّل عمله، إذ إن سينرجيا الرُّوح القدس، تظهر في الافخارستيَّا في ما يمكن تسميته فيض الاستدعاء على العَالم. وسنرى كيف أن عمل "الرُّوح القدس والكنيسة"، يقوم على أن يضع الرُّوح كلّ شيء في الشَّركة وأن "يسترجع كل شيء"
فيض الاستدعاء
يُلاحظ في نهاية الاستدعاء بحسب قدَّاس باسيليوس الكبير أن الضَّرورة لأن نكون متَّحدين بعضنا مع بعض في شركة الرُّوح القدس الواحد أساسها مشاركتنا في الخبز الواحد والكأس الواحدة،ومن هذا المنظور، نطلب "أن نجد رحمة ونعمة مع جميع القدِّيسين الَّذين أرضوك منذ القدم"، "سحابة من الشُّهود" الَّذين يحتفلون معنا اليوم بسرّ الملكوت، وفي المسيح القائم من الموت يفيض الرُّوح على التَّاريخ كلّه قوّة شركته التي تستطيع وحدها أن تعطي كلَّ شيء معناه، فهذا هو تدبير الخلاص
إن قوَّة الاستدعاء تفيض حينئذ على العالم أجمع، من أجل جميع أبناء الله المشتَّتين، هذا الابتهال يرتفع من المذبح، رمز القبر، مع المسيح القائم من بين الأموات الَّذي يجتذب كلّ شيء إليه، وهو"يشفع" لدى الآب الذي لا ينفكّ، وبلا كلل، يرسل روحه المحيي إلى قلب كلِّ شخص بشريّ، وينبغي أن نشير أيضًا، إلى أنَّ الرُّوح القدس "يسترجع" كلَّ شيء في جسد المسيح القائم من الموت، فالرُّوح القدس لا يخلق عالمًا آخر غير هذا العالم، بل يحوّله، ويجعله "يتجلَّى". الخليقة كلّها "تئنّ"، "من آلام المخاض"، "بانتظار مجيء أبناء الله". هذا التَّجلّي الَّذي هو عمل الرُّوح والعروس موكول إلينا
استدعاءات المناولة
بعد طلبة الأسئلة، وكمقدِّمة إلى الصَّلاة الربيَّة وفي صلاة حني الرَّأس الَّتي تلي عطيَّة السَّلام الثَّالثة، تتلى عدَّة صلوات استدعائيَّة تطلب شركة الرُّوح القدس، وتقودنا نحو الاشتراك في جسد المسيح ودمه، إلاَّ أن أهمَّها،"الزاون"، هذا الماء الغالي الَّذي يمزج بالجسد الثَّمين من بعد أن توضع قطعة من الحمل في الكأس المقدَّسة: "حرارة الإيمان، الرُّوح القدس"
صلاة الشُّكر الختاميَّة
وبعد المناولة مباشرة: "لقد نظرنا النُّور الحقيقيّ، وأخذنا الرُّوح السَّماويّ، ووجدنا الإيمان الحقّ، فلنسجد للثَّالوث غير المنقسم، لأنَّه خلَّصنا". وعندما نتناول جسد المسيح القائم من الموت فإننا نقبل الرُّوح القدس، الرُّوح عينه الَّذي أقام المسيح من بين الأموات وهو يفعل فينا بقدرة القيامة عينها "أيها المسيح، الفصح العظيم الأقدس! ياحكمة الله وقوَّته وكلمته! أنعم علينا أن نشاركك أكمل مشاركة في نهار ملكك الَّذي لا مساء له"
خلاصة
أخيرًا، إذا أردنا أن نحيط في نظرة إيمان واحدة بما تعرب عنه الليترجيَّا البيزنطيَّة عن أهميَّة الرُّوح القدس (لاهوت)، من خلال الطروباريَّات الخاصَّة بالرُّوح، وعمَّا يحقِّقه الرُّوح (تدبير) في الاحتفال الافخارستيّ نلاحظ تكاملاً في تناغم السِّر، إذ تظهر بوضوح مقرَّرات المَجمع المسكونيّ الثَّاني؛ الرُّوح القدس هو إله يتساوى في الجوهر مع الآب والابن؛ وهو في شركة الثَّالوث الواحد وغير المنقسم، مساوٍ للآب والابن في القدرة عينها والحكمة عينها والقداسة عينها. إلاَّ أنَّه يعمل أيضًا كالآب والكلمة في الخليقة وفي تدبير الخلاص
إنَّه ينبثق من الآب وهو مرسل من الآب ورسالته متميِّزة عن رسالة الكلمة ولكنَّها غير منفصلة عنها، والحال إنَّ سرَّ الشَّركة الثَّالوثيَّة هذا وتدبيره هو الَّذي يظهر في سرّ الإيمان العظيم، سرّ الإفخارستيَّا، وهو لا يُعلن ويُعترف به فحسب، بل يصبح حاضرًا بقوَّة الرُّوح القدس، وبه يؤلّه جميع الَّذين يتناولونه، إذ إن الاستدعاءات التي تطبع بإيقاعها الاحتفال بالقدَّاس الإلهيّ تعلن بالفعل، أنَّ الرُّوح القدس يتساوى في الجوهر مع الآب والابن، ففي الحدث الاستدعائيّ تلتزم وحدة الأقانيم الثَّلاثة كما تلتزم الكنيسة المحتفلة، إذ إن رسالة الرُّوح القدس، في الأزمنة الأخيرة، تنبثق من جسد المسيح وترتبط به: فمصيره ومعركته ونموّه هي جميعًا المعنيَّة في الافخارستيَّا
والثَّالوث الأقدس هو ينبوع سرّ الكنيسة ومثاله وغايته، والإفخارستيَّة هي سرّه الأعظم، فالرُّوح القدس يفتح لنا الطَّريق إلى الآب في الِّليترجيَّا لأن من يعرِّفنا بالإله الحق ويؤلِّهنا هو روح المجد
فكل ما ذُكر ما هو إلاَّ نقطة في بحر تلك الذَّاكرة الحيَّة للكنيسة الَّتي تذكِّر بكلام يسوع وتشهد له، بل تخبرنا بما سيحدث، فالرُّوح القدس يؤوِّن عمل الخلاص ويجعلنا تقدمة روحيَّة، عندما نرضى بأن يحوِّلنا ويماثلنا بالمسيح، فعندها نهتف إليه قائلين:" أيُّها الملك السَّماوي المعزِّي روح الحقّ الحاضر في كلِّ مكان والمالئ الكلّ كنز الصَّالحات وواهب الحياة، هلمَّ واسكن فينا وطهِّرنا من كلِّ دنس وخلِّص أيُّها الصَّالح نفوسنا" آمين
المراجع
1- مجموعة محاضرين،1999.الرُّوح القدس في الليترجيَّا، الكسليك:لبنان، العدد25
2- (د.م)،1993. الليترجيَّا الإلهيَّة للقدِّيس يوحنا الذَّهبيّ الفمّ، جون: المطبعة المخلِّصيَّة.
3- (د.م)،1993. الليترجيَّا الإلهيَّة للقدِّيس باسيليوس الكبير، جون: المطبعة المخلِّصيَّة.
[1] (إر، الرقم42)
[2] (إر، الرَّقم 40)
[3] طاقة الرُّح المشتركة
[4] المزامير 119-133
[5] أصول الترنيم البيزنطي
[6] الألحان الثَّمانية
[7] (أفسس 9:3)
[8] (روما2:12)
[9] (غلاطية 22:5)
[10] (يوحنَّا19:20-23)
[11] نيقولا كابازيلاس،"شرح القدَّاس الإلهي"،(الفصل2:28)
[12] (أفسس3:4)
[13] قدَّاس يوحنَّا فم الذَّهب الصَّلاة الأولى
[14] قدَّاس باسيليوس الصَّلاة الثَّانية
[15]قدَّاس يوحنَّا فم الذَّهب
[16] (يوحنَّا26:14)
[17] (يوحنَّا26:15)
[18] (كور17:2)
[19] قدَّاس يوحنَّا فم الذَّهب
[20] في الإيمان الأرثوذكسيّ، الفصل13:4
لقد أردت في دراستي هذه حول الرُّوح القدس في الليترجيَّا البيزنطيَّة التَّركيز على دور الثَّالوث الأقدس في سرّ الخلاص وبالأخصّ دور الرُّوح القدس المنبثق من الآب والمسجود له، الَّذي له الحصَّة الكبرى في ليترجيَّا الكنيسة العظمى البيزنطيَّة؛ وللوصول إلى مرحلة أقدر فيها على الصَّلاة بشكل أعمق وأحرّ، متذكِّرًا دور الرُّوح القدس الَّذي ننسى دوره في بعض الأحيان، خصوصًا في الطروباريَّات وفي القدَّاس الإلهي وهذا ما دفعني لاختيار هذا الموضوع الشيِّق والعميق في مضمونه
مقدِّمة
"في الاحتفال بالأسرار المقدّسة يُظهِر التَّقليد المقدَّس قوَّته المحيية"[1]، وقوَّة الرُّوح القدس أي "الذَّاكرة الحيَّة للقائم من بين الأموات"[2]، فلمعرفة دور الرُّوح القدس في الليتورجيا البيزنطيَّة، كان بالإمكان اللجوء إلى العديد من المقاربات البانوراميَّة: الأعياد الرَّئيسيَّة في السَّنة الليترجيَّة؛ ميستاغوجيا الليتورجيَّا الإلهيَّة والأسرار الكبرى؛ رمزيَّة الرُّوح القدس في الكتب المقدَّسة والاحتفالات الأسراريَّة والايكونوغرافيا؛ الاستدعاءات الخاصَّة بكل سرّ، سينرجيات[3] الرُّوح القدس والجماعة الكنسيَّة؛ فاخترت مقاربتين تبدوان أكثر تعبيرًا عن وجود الرُّوح القدس في الليترجيَّة البيزنطيَّة: ما يُقال عن الرُّوح القدس، بشكل إعلان للإيمان العقائديّ، في مجموعات عديدة من الطروباريَّات الاستثنائية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ما يحقِّقه الرُّوح القدس في الاحتفال الأمثل بالأسرار المقدَّسة، أي في الليترجيَّة الإلهيَّة الخاصَّة بالإفخارستيَّا
أولاً: في طروباريَّات الرُّوح القدس
إن الطروباريَّات الَّتي يرد فيها ذكر الرُّوح القدس في الطَّقس البيزنطيّ لا عدّ لها، فيظهر بدقَّة أن الأمر يتعلّق ببعض الطروباريَّات (سبع وعشرين بالتَّحديد) التي يمتاز محتواها بكثافة لاهوتيَّة نادرة وتشكِّل صيغتها تأكيدًا عقائديَّاً لا مجرَّد صلاة
أنافثمي الآحاد
الأنافثمي هي التَّرجمة اليونانيَّة للسبعينيَّة لمزامير "المراقي"[4]. فخلال صلاة السَّحر، تُنشد قبل قراءة إنجيل القيامة، وتتألَّف كلّ واحدة من هذه المراقي من ثلاث أنديفونات تختتم كلّ منها، بعد التَّمجيد الثَّالوثيّ، بطروباريَّة موجزة مخصَّصة للرُّوح القدس، ومن المعروف أيضًا بالبصلتيكا[5] البيزنطيَّة أنَّها تخصِّص لكلّ يوم أحد لحنًا موسيقيًّا بحسب دورة من ثمانية ألحان أكتويخوس[6] الآحاد، فيصبح المجموع الكامل هو خمسٌ وعشرون طروباريَّة للرُّوح القدس على عدد الأحرف الأبجديَّة اليونانيَّة، إذا أُضيفت أنديفونة رابعة للَّحن الثَّامن
طروباريَّتان من سحر العنصرة
هناك طروباريَّتان لهما الفحوى العقائديَّة نفسها، وهما تُرتَّلان ضمن التَّهاليل الصَّباحيَّة في سحر العنصرة وهذا نصُّهما: "إن الرُّوح القدس كان دائمًا ويكون وسيكون، لأنَّ ليس له ابتداء ولا انتهاء، لكنَّه دائمًا منتظم ومعدود مع الآب والابن. وهو حياة ومحيي، نورٌ وواهب النُّور، صالحٌ بالطَّبع وينبوع الصَّلاح، به يُعرف الآب، ويمجَّد الابن، ويفهَم الكلُّ أن الثَّالوث المقدَّس قوَّة واحدة، ورتبةٌ واحدةٌ، وسجدةٌ واحدةٌ"
" إن الرُّوح القدس نور وحياة وينبوع حيّ عقليّ، روح حكمة، روح فهم، صالح مستقيم عقليّ مرشد، مطهِّر للهفوات، إله ومؤلِّه، نار صادرة من نار، متكلِّم فاعل موزِّع للمواهب. به تكلّل جميع الأنبياء ورسل الله الشُّهداء، هي سمعة غريبة، رؤية غريبة، نار مقسومة لتوزيع المواهب"
ملاءمتهما الليترجيَّا
إن "النَّوع الليترجيّ" لهاتين الطروباريَّتين نادر في الأناشيد البيزنطيَّة، ومثير للدَّهشة. فمثل هذه الكثافة العقائديَّة المسكوبة في شاعريَّة بسيطة ودون بلاغة متعمَّدة، يمكنها أن تجعلنا نستشفّ ملاءمة هذا النَّوع الليترجيّ، الملائم للرُّوح القدس؛ إذ الصَّلاة الليترجيَّة لا يمكنها أن تكون مستوحاة من معنى السِّر، إلاَّ إذا تأَصَّلت في تجرُّد الرُّوح في قلب كيان الكنيسة؛ وهكذا نستطيع أن نفهم لماذا أسماء الرُّوح القدس والأفعال المنسوبة إليه في الطروباريتيَّن مأخوذة كلّها من الكتب المقدَّسة. وربط هذه الأسماء والأفعال هو تأمُّل لاهوتيّ لا مجرَّد تعليق، لأن طابعهما العقائديّ، من دون البرودة الجوهريَّة للتَّعريفات المجمعيَّة. إذ إن الطروباريَّتين الموجَّهتين إلى الرُّوح القدس هما أساسًا، صلوات صغيرة تمجيديَّة، لأنّ في التَّمجيد تعبِّر الليتورجيَّا أفضل ما تعبِّر عن إيمان الكنيسة المصلِّية. وبسبب الدِّقة العقائديَّة في هاتين الطروباريَّتين الرُّوحيَّتين، نحاول مقارنتهما بنوعَين آخرين من الأناشيد البيزنطيَّة: "الدُّوغماتيكا" من جهة، وهي الأناشيد الموجَّهة إلى والدة الإله التي ترتَّل في غروب يوم السَّبت، وفيها عصارة الإيمان الكريستولوجيّ، ومن جهة أخرى القوانين الثَّالوثيَّة لرتبة نصف ليل الأحد، حيث يتنافس في الشَّاعريَّة تسبيح الثَّالوث مع شقاء القلب المسكين الواثق الَّذي يقدّم له العبادة. وهذه التَّآليف الثَّلاثة، اتَّخذت شكلها النِّهائيّ تقريبًا في القرن التَّاسع، بعد انتصار الأرثوذكس على محاربي الأيقونات، فهؤلاء المؤلِّفون هم شهود ثمينون للتَّقليد الآبائيّ العَظيم؛ فيُلاحظ تناغم التَّقليد بين لاهوت الثَّالوث ولاهوت المسيح ولاهوت الرُّوح القدس. إنه تناغم"قانون الإيمان" فالإيمان الَّذي أعلنته المجامع الكُبرى والآباء يُعبَّر عنه في الليتورجيَّا
ثانياً: عمل الرُّوح القدس في الليترجيَّا
كيف تقول الكنائس ذات التَّقليد البيزنطيّ حول "من هو الرُّوح القدس؟"
التَّمجيد دائمًا ثالوثيّ، وهو يُظهر الإيمان المستقيم كما يوحي به الكتاب المقدَّس وتعلنه المجامع المسكونيَّة في التَّقليد الرَّسوليّ. لذلك فإن الطروباريَّات الأكثر دلالة الَّتي احتفظنا بها هي إعادةُ صياغة موجزة لقانون إيمان نيقيا – القسطنطينيَّة المتعلِّق باللاهوت: الرُّوح القدس "ربّ، محيي، منبثق من الآب والابن مسجود له وممجَّد"ولكن، "من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا"، أي في أحداث "تدبير السِّر"[7]، ومن دون انفصال عن اللاهوت، يظهر الرُّوح القدس؛ ونستطيع أن نعرفه بما يحقِّقه؛ فيوم العنصرة، يفتتح الرُّوح القدس الأزمنة الأخيرة، التي تمَّت نهائيَّاً في المسيح هي، في الرُّوح القدس، عاملة منذ الآن، ومن الآن فصاعداً، فالتَّدبير في الأزمنة الأخيرة أزمنة الكنيسة، هو أسراريّ لأنَّ الرُّوح القدس يعمل من خلال العلامات المحسوسة للأنتروبولوجيا الملموسة الخاصَّة بكل كنيسة
سأقتصر في تأمُّلي على اللِّيتورجيَّا الإلهيَّة، القدَّاس الإلهي، "سرّ الأسرار" ومن اللافت أن عمل الرُّوح القدس يُظهر على مدى الاحتفال الإفخارستيّ، تناغمًا مدهشًا، وهو بحقّ، الحدث الأساسيّ في الذَّبيحة الإفخارستيَّة، لكنَّ الاستدعاءات الأخرى الَّتي تسبقه وتلك الَّتي تليه، تدلّ على مستاغوجيا الرُّوح القدس في وحدة الاحتفال، ولا يمكن الابتهال إلى اسم يسوع، وفيه إلى الآب، إلاَّ بفعل الرُّوح القدس، وهذا يعني أن المسيح نفسه، وبنعمة صرف، يُرسل إلينا، في استدعائه، روحه القدُّوس. ولكن من ثم، بعد أن نتقبَّل الرُّوح القدس على مذبح اللِّيتورجيَّا ومذبح القلب، علينا أن نرضى بأن يحوِّلنا الرُّوح ويُماثلنا بالمسيح يسوع: أي أن نصير "تقدمة روحية"[8]. تُرضي الآب، إذ إنَّ ديناميَّة الشَّركة (كينونيَّا) هذه، هي في الحقيقة عمل الرُّوح القدس في الليتورجيَّا. لكي تصير في المسيح "تقدمةً روحيَّة" مرضيَّة لدى الآب
الاستدعاء على الكتب المقدَّسة
إن ذروة ليترجيَّا الموعوظين هي إعلان الإنجيل، بل "نصعد" نحو الإصغاء إلى الإنجيل بصلاة استدعائيَّة واضحة، حتى ولولم يرِد فيها صراحة ذكر الرُّوح القدس: "أيها السَيِّد المحبّ البشر، أضئ قلوبنا بصافي نور معرفتك الإلهيَّة، وافتح عيون أذهاننا لنفهم تعاليمك الإنجيليَّة". وهذا بالتَّحديد ما جرى مع تلميذَي عمَّاوس. كان يسوع يشرح لهما ذلك، وأصبح قلباهما "ملتهبين" بنار الرُّوح، وانفتحت أعينهما؛ فما يطلبه هذا الاستدعاء إذن هو مجيء الرُّوح القدس:"ولكن المؤيِّد"، الرُّوح القدس الَّذي يرسله الآب باسمي، هو يعلِّمكم جميع الأشياء ويذكِّركم بجميع ما قلته لكم، ويصيب "بول إفدوكيموف" إذ يسمِّي ذلك "الاستدعاء الكتابيّ" أي تحوّل الكتب تحوّلاً أسراريَّاً إلى كلمة الله الَّتي تُعطي غذاء"
عطيَّة السَّلام المثلَّثة
حالاً، قبل إعلان الإنجيل، يعطى السَّلام إلى الكنيسة مجتمعة، إذ لهذه العطيَّة دلالة على عمل الرُّوح القدس، فالسَّلام هو "ثمر الرُّوح"[9]، يُعطى السَّلام ثلاث مرَّات: أوَّلاً هنا، في ذروة ليترجيَّا الموعوظين، ثمَّ مباشرةً قبل تقدمة الذَّبيحة (الأنافورة أو النَّافور)، وأخيرًا في بداية ليترجيَّا المناولة لأن عطيَّة السَّلام هذه تُؤوِّن في الليتورجيَّا عطَّية سلام الرُّوح القدس الَّذي يُفيضه الرَّب القائم من الموت على التَّلاميذ في ما يسميِّه التَّقليد الأرثوذكسيّ "بالعنصرة اليوحنَّاويَّة"[10] إنه الكلام الأوَّل الَّذي يتفجَّر من قلب يسوع الغَالب الموت وهو يبلّغ إلى التَّلاميذ النَّفحة الإلهيَّة التي ستصنع منهم أعضاء جسده. "الرُّوح هو الَّذي يحتفل بالأسرار بيد الكاهن ولسانه"[11] وكعلامة على إرادة المؤمنين "في المحافظة على وحدة الرُّوح برباط السَّلام"[12]، بوسعهم أن يجيبوا حينئذ: "ومع روحك"
الطلبات من أجل المؤمنين
بعد الطّلبة المُلحَّة الَّتي ترفعها الكنيسة المحلّيَّة، تبدأ ليترجيَّا المؤمنين بالمعنى الصَّحيح للكلمة. "تقبَّل أللهمَّ طلبتنا، وأهِّلنا لأن نقدِّم لك طلبات وابتهالات وذبائح غير دمويَّة، لأجل شعبك كلّه. وبقدرة روحك القدُّوس، اجعلنا نحن الذَّين أقمتهم لخدمتك هذه، كفاةً لأن ندعوك في كلّ زمان ومكان، بلا دينونة ولا عثرة، وبشهادة ضميرنا الصَّالحة"[13]، "أنت قوِّنا على الخدمة، بقدرة روحك القدُّوس. وأعطنا كلامًا عند فتح أفواهنا، لنستدعي نعمة الرُّوح القدس على القرابين المزمعة أن تقدَّم"14]
تُبرز شهادة الليتورجيَّا البيزنطيَّة هذه، شهادة قويَّة جدًا إذ تبدو الطَّاقات الإلهيَّة الَّتي تظهر بالرُّوح القدس العامل في جسد المسيح، هي دائمًا عمل الشّركة؛ فالكينونيا هي في الوقت نفسه، عملُ الخدَّام وعمل الرُّوح القدس، لذلك فهي تَظهَر على الوجه الأمثل في الإفخارستيَّا
صلاة التَّقدمة
نحن على عتبة تقديم الذَّبيحة أو"الأنافورة أو النَّافور"، وفي صلاة استدعائيَّة أخيرة، يجتمع في ابتهالٍ واحدٍ إلى الآب، الخدَّام والقرابين المقدَّمة والشَّعب كلّه:"أيها الرَّب الإله القدير القدُّوس وحدك، القابل ذبيحة التَّسبيح من الَّذين يدعونك بكل قلوبهم، ... أهِّلنا لأن نُصيب حظوةً في عينيك، فتكون ذبيحتنا مرضيَّة لديك، ويستقرّ روح نعمتِك الصَّالح علينا وعلى هذه القرابين المقدَّمة وعلى شعبك كلِّه"[15
وفي قدَّاس باسيليوس الكبير، نجد عبارات مماثلة:"أيها الرَّب إلهُنا... إنك وضعتنا لهذه الخدمة بقدرة روحك القدُّوس ... إقبلنا بحسب عظيم رحمتك لنصير أهلاً لأن نقدِّم لك هذه الذَّبيحة الرُّوحيَّة عن خطايانا وجهالات الشَّعب. فاقبلها على مذبحك المقدَّس السَّماويّ رائحة طيِّبة، وأرسل عوضًا عنها نعمة روحك القدُّوس
الكنيسة الَّتي "ستصنع الافخارستيَّا"، هي بانتظار"العنصرة الإفخارستيَّة": وهي ترفع تضرُّعاتها نحو الآب، وتنتظر"بالمقابل" حلول المؤيِّد "برأفة ابنك الوحيد الَّذي أنت مبارَك معه ومع روحك القدُّوس الصَّالح والمحيي. وللمرَّة الثَّانية، يُعطى السَّلام لكي تتثبّت في شركة المحبَّة وحدةُ الإيمان "بالثَّالوث الواحد في الجَوهر وغير المنقسم"إذ إن الثَّالوث الأقدس يظهر ويؤوِّن بالاستعداد الإفخارستيّ الكبير
الرُّوح القدس والذّكر (أو الاستذكار
الليتورجيَّا الافخارستيَّة بكاملها هي استذكار لتدبير الخلاص، فالاستذكار يسترجع كل ما أتمَّه المسيح "مرَّة وإلى الأبد" إذ هو باقٍ للأبد، أمَّا العنصرة، فهي لا تضاف إلى فصح المسيح، ولكن الرُّوح القدس يظهرها ويؤوِّنها ويشركنا فيها بالعنصرة، في الافخارستيَّا، جديدة دائمًا في الاستذكار، فيذكِّرنا الرُّوح القدس بالحدث الفصحيّ، ليؤوِّنه مباشرة في الاستدعاء، ومن أجل أن تصبح الكنيسة أكثر فأكثر ما هي، في شركة سيِّدها المصلوب والقائم من بين الأموات، فيمكننا أن نستشعر كم أنَّ الرُّوح القدس هو " الذَّاكرة الحيَّة للكنيسة"،"يذكِّرنا"[16] بكل ما قاله يسوع وهو"يشهد"[17] اليوم معنا ليسوع، وهو "يخبر بما سيحدث" إذ إن هذا العمل الثَّالث لرسالة الرُّوح القدس الأخيريَّة (الاسكتولوجيَّة) هو الَّذي يفسِّر لنا لماذا يعلَن "المجيء الثَّاني الجديد والمجيد" في الاستذكار، فالمقصود ليس انتظار رجوعه فقط، ذاك الرُّجوع الَّذي لا نعرف يومه ولا ساعته، بل أن نعيشه اليوم، لأن جسده القائم من الموت هو غذاء "العالم الآتي" وعربون قيامتنا، فباختصار الاستذكار يجعلنا "معاصرين" للعمل العظيم الرَّائع الَّذي يحقِّقه الآب بواسطة مسيحه، لا كذكرى ولا كاستباق وهميّ بل "أسراريًا"، أي حقًا، ومن أجلنا، في الإيمان، "لأن الحقيقة هي جسد المسيح"[18]، إذن قدرة الرُّوح القدس في الاستذكار، توقظ وتفيض على مدى أبعاد السِّر، قوَّة إيماننا المتواضعة المسكينة الَّتي تسمَّى في حدث الإفخارستيَّا المركزيّ: الاستدعاء
استدعاء الكنيسة العظيم
بعد ثلاث مطانيَّات أمام المذبح، يرفع الكاهن ابتهالات الكنيسة، وهي تفوق بما لا يقاس ابتهالات إيليَّا أمام مذبح جبل الكرمل، لأنَّها ابتهالات المسيح نفسه، فيستعيد آخر الكلمات التي أنشدتها الجماعة: "وإليك نطلب، يا إلهنا"، فيقول:"إليك نطلب ونبتهل ونتضرَّع فأرسل روحك القدُّوس علينا وعلى هذه القرابين المقدَّمة، واجعل (+) هذا الخبز جسد مسيحك الكريم آمين، وما في هذه الكأس (+) دم مسيحك الكريم آمين، محوِّلاً إيَّاهما بروحك القدُّوس آمين، آمين، آمين. لكي يكونا للمتناولين منهما عفافًا للنَّفس، غفرانًا للخطايا، شركة الرُّوح القدس، كمالاً لملكوت السَّموات، دالَّة لديك، لا للدينونة أو الحكم عليهم"[19
ماذا يحدث في الاستدعاء؟ فيجيب القدِّيس يوحنَّا الدِّمشقي:" الرُّوح القدس يتدخَّل فجأة ويتمِّم ذلك التحوُّل الَّذي يفوق كلّ كلام وكلّ فكر (...) أن تسمع أنَّه بالرُّوح القدس كما من مريم العذراء وبالرُّوح القدس، اتَّخذ الرَّب، بنفسه وفي نفسه، جسداً"[20
"كيف يكون هذا؟"حينئذ، يأتي جواب الآب، فيرسل روحه ويتمّ وعده، وعندما "يتدخَّل" الرُّوح فجأة، يحمل معه الجدّة المثلى: المسيح. إنَّه لا يهدم شيئًا، ما خلا الموت والخطيئة الَّلذين هما كذبة العدم، بل "يحوّل" ما يقدم إلى قدرته: العذراء تحبل، جسد آدم الثَّاني يصير "روحًا محييًا" الكنيسة تولد إلى العالم، القرابين المقدَّسة تتحوَّل إلى حقيقة جسد المسيح
وأخيرًا، إنَّ الرُّوح القدس في حركة الاستدعاء المزدوجة، يعمل دائمًا في طاقة مشتركة (سينرجيا) لأنَّه روح الشَّركة، ففي الحركة الصَّاعدة إلى الآب، هو الَّذي يحمل إيمان مريم "الممتلئة نعمة"؛ وعندما يقرِّب المسيح نفسه إلى الآب فهو يفعل ذلك "بروح أزليّ"، وهو الَّذي يُبقي التَّلاميذ في الانتظار والرَّجاء؛ وهو الَّذي يجعل الكنيسة باستدعاءات تدريجيَّة في حالة تقدمة وابتهال. ولكن، بعد أن يحقِّق التحوّل ويؤوِّن سرّ المسيح، فهو يكمِّل عمله، إذ إن سينرجيا الرُّوح القدس، تظهر في الافخارستيَّا في ما يمكن تسميته فيض الاستدعاء على العَالم. وسنرى كيف أن عمل "الرُّوح القدس والكنيسة"، يقوم على أن يضع الرُّوح كلّ شيء في الشَّركة وأن "يسترجع كل شيء"
فيض الاستدعاء
يُلاحظ في نهاية الاستدعاء بحسب قدَّاس باسيليوس الكبير أن الضَّرورة لأن نكون متَّحدين بعضنا مع بعض في شركة الرُّوح القدس الواحد أساسها مشاركتنا في الخبز الواحد والكأس الواحدة،ومن هذا المنظور، نطلب "أن نجد رحمة ونعمة مع جميع القدِّيسين الَّذين أرضوك منذ القدم"، "سحابة من الشُّهود" الَّذين يحتفلون معنا اليوم بسرّ الملكوت، وفي المسيح القائم من الموت يفيض الرُّوح على التَّاريخ كلّه قوّة شركته التي تستطيع وحدها أن تعطي كلَّ شيء معناه، فهذا هو تدبير الخلاص
إن قوَّة الاستدعاء تفيض حينئذ على العالم أجمع، من أجل جميع أبناء الله المشتَّتين، هذا الابتهال يرتفع من المذبح، رمز القبر، مع المسيح القائم من بين الأموات الَّذي يجتذب كلّ شيء إليه، وهو"يشفع" لدى الآب الذي لا ينفكّ، وبلا كلل، يرسل روحه المحيي إلى قلب كلِّ شخص بشريّ، وينبغي أن نشير أيضًا، إلى أنَّ الرُّوح القدس "يسترجع" كلَّ شيء في جسد المسيح القائم من الموت، فالرُّوح القدس لا يخلق عالمًا آخر غير هذا العالم، بل يحوّله، ويجعله "يتجلَّى". الخليقة كلّها "تئنّ"، "من آلام المخاض"، "بانتظار مجيء أبناء الله". هذا التَّجلّي الَّذي هو عمل الرُّوح والعروس موكول إلينا
استدعاءات المناولة
بعد طلبة الأسئلة، وكمقدِّمة إلى الصَّلاة الربيَّة وفي صلاة حني الرَّأس الَّتي تلي عطيَّة السَّلام الثَّالثة، تتلى عدَّة صلوات استدعائيَّة تطلب شركة الرُّوح القدس، وتقودنا نحو الاشتراك في جسد المسيح ودمه، إلاَّ أن أهمَّها،"الزاون"، هذا الماء الغالي الَّذي يمزج بالجسد الثَّمين من بعد أن توضع قطعة من الحمل في الكأس المقدَّسة: "حرارة الإيمان، الرُّوح القدس"
صلاة الشُّكر الختاميَّة
وبعد المناولة مباشرة: "لقد نظرنا النُّور الحقيقيّ، وأخذنا الرُّوح السَّماويّ، ووجدنا الإيمان الحقّ، فلنسجد للثَّالوث غير المنقسم، لأنَّه خلَّصنا". وعندما نتناول جسد المسيح القائم من الموت فإننا نقبل الرُّوح القدس، الرُّوح عينه الَّذي أقام المسيح من بين الأموات وهو يفعل فينا بقدرة القيامة عينها "أيها المسيح، الفصح العظيم الأقدس! ياحكمة الله وقوَّته وكلمته! أنعم علينا أن نشاركك أكمل مشاركة في نهار ملكك الَّذي لا مساء له"
خلاصة
أخيرًا، إذا أردنا أن نحيط في نظرة إيمان واحدة بما تعرب عنه الليترجيَّا البيزنطيَّة عن أهميَّة الرُّوح القدس (لاهوت)، من خلال الطروباريَّات الخاصَّة بالرُّوح، وعمَّا يحقِّقه الرُّوح (تدبير) في الاحتفال الافخارستيّ نلاحظ تكاملاً في تناغم السِّر، إذ تظهر بوضوح مقرَّرات المَجمع المسكونيّ الثَّاني؛ الرُّوح القدس هو إله يتساوى في الجوهر مع الآب والابن؛ وهو في شركة الثَّالوث الواحد وغير المنقسم، مساوٍ للآب والابن في القدرة عينها والحكمة عينها والقداسة عينها. إلاَّ أنَّه يعمل أيضًا كالآب والكلمة في الخليقة وفي تدبير الخلاص
إنَّه ينبثق من الآب وهو مرسل من الآب ورسالته متميِّزة عن رسالة الكلمة ولكنَّها غير منفصلة عنها، والحال إنَّ سرَّ الشَّركة الثَّالوثيَّة هذا وتدبيره هو الَّذي يظهر في سرّ الإيمان العظيم، سرّ الإفخارستيَّا، وهو لا يُعلن ويُعترف به فحسب، بل يصبح حاضرًا بقوَّة الرُّوح القدس، وبه يؤلّه جميع الَّذين يتناولونه، إذ إن الاستدعاءات التي تطبع بإيقاعها الاحتفال بالقدَّاس الإلهيّ تعلن بالفعل، أنَّ الرُّوح القدس يتساوى في الجوهر مع الآب والابن، ففي الحدث الاستدعائيّ تلتزم وحدة الأقانيم الثَّلاثة كما تلتزم الكنيسة المحتفلة، إذ إن رسالة الرُّوح القدس، في الأزمنة الأخيرة، تنبثق من جسد المسيح وترتبط به: فمصيره ومعركته ونموّه هي جميعًا المعنيَّة في الافخارستيَّا
والثَّالوث الأقدس هو ينبوع سرّ الكنيسة ومثاله وغايته، والإفخارستيَّة هي سرّه الأعظم، فالرُّوح القدس يفتح لنا الطَّريق إلى الآب في الِّليترجيَّا لأن من يعرِّفنا بالإله الحق ويؤلِّهنا هو روح المجد
فكل ما ذُكر ما هو إلاَّ نقطة في بحر تلك الذَّاكرة الحيَّة للكنيسة الَّتي تذكِّر بكلام يسوع وتشهد له، بل تخبرنا بما سيحدث، فالرُّوح القدس يؤوِّن عمل الخلاص ويجعلنا تقدمة روحيَّة، عندما نرضى بأن يحوِّلنا ويماثلنا بالمسيح، فعندها نهتف إليه قائلين:" أيُّها الملك السَّماوي المعزِّي روح الحقّ الحاضر في كلِّ مكان والمالئ الكلّ كنز الصَّالحات وواهب الحياة، هلمَّ واسكن فينا وطهِّرنا من كلِّ دنس وخلِّص أيُّها الصَّالح نفوسنا" آمين
المراجع
1- مجموعة محاضرين،1999.الرُّوح القدس في الليترجيَّا، الكسليك:لبنان، العدد25
2- (د.م)،1993. الليترجيَّا الإلهيَّة للقدِّيس يوحنا الذَّهبيّ الفمّ، جون: المطبعة المخلِّصيَّة.
3- (د.م)،1993. الليترجيَّا الإلهيَّة للقدِّيس باسيليوس الكبير، جون: المطبعة المخلِّصيَّة.
[1] (إر، الرقم42)
[2] (إر، الرَّقم 40)
[3] طاقة الرُّح المشتركة
[4] المزامير 119-133
[5] أصول الترنيم البيزنطي
[6] الألحان الثَّمانية
[7] (أفسس 9:3)
[8] (روما2:12)
[9] (غلاطية 22:5)
[10] (يوحنَّا19:20-23)
[11] نيقولا كابازيلاس،"شرح القدَّاس الإلهي"،(الفصل2:28)
[12] (أفسس3:4)
[13] قدَّاس يوحنَّا فم الذَّهب الصَّلاة الأولى
[14] قدَّاس باسيليوس الصَّلاة الثَّانية
[15]قدَّاس يوحنَّا فم الذَّهب
[16] (يوحنَّا26:14)
[17] (يوحنَّا26:15)
[18] (كور17:2)
[19] قدَّاس يوحنَّا فم الذَّهب
[20] في الإيمان الأرثوذكسيّ، الفصل13:4