النعمة في الكتاب المقدّس
مقدمة
اخترت في بحثي هذا موضوع النِّعمة، وقد حاولت أن أجد المراجع الكافية لمحاولة إصابة المعنى العميق الَّذي تحمله هذه الكلمة ومحاول الإحاطة بالمعاني الَّتي يحملها هذا الموضوع، وقد وضعت المعنى الأوَّل بحسب ما ورد في قاموس الكتاب المقدَّس، ثم في المعجم اللاهوتيّ، وأخيرًا في المحيط الجامع؛ ولقد وجدت الكثير من المعاني المتعددة لهذا الموضوع، بالإضافة إلى تشعُّبات من ناحية اللغة والتَّعابير والمصطلحات الَّتي تصبّ في خامة موضوع النِّعمة، ولا ننسى معانيها المختلفة في الكتاب المقدَّس، بعهديه القديم والجديد
"النِّعمة"
: هي إظهار محبة الله للخطأة، ونعمة الله تخلّص من الخطيئة بدون أن يستحقوا ذلك، ولذلك يسمَّى الإنجيل (بشارة نعمة الله)، وكان بولس يبدأ رسالته "بنعمة الله"؛ وكان الله المرموز إليه بالرَّاعي يسمِّي أحد عَصَوَيه (نعمة) إشارة إلى نعمته نحو شعبه (زك11: 7و 10
"أوّلاً: هذه اللَّفظة لم تَخْتَلِقْهَا المسيحيّة، بل هي واردة في العهد القديم؛ ولكن العهد الجديد قد حدّد معناها وأعطاها كلّ أبعادها، وقد استعملها ليصف النِّظام الجديد الذي أسَّسَه يسوع المسيح إزاء التدبير القديم الخاضع للشريعة، بينما المعنى الثاني هو عهد النِّعمة، إذ إن النِّعمة هي عطيَّة من الله تحوي كلّ العطايا، أي هبة ابنه؛ فهي هبة تشعّ بسخاء المعطي وتغمر الخليقة بالسَّخاء، فيجد من ينالها حظوةً أمام الله؛ فتُفسّر كلمة "نعمة" باللاتينية (gratia) لفظاً عبرياً وآخر يونانيّاً، يدل كل منهما على ينبوع الهبة لدى من يعطي وعلى نتيجة الهبة لدى من ينال؛ فاللفظة العبرّية "حنّ " تصف المحبَّة والعطف المجّاني في شخص عالي المقام؛ ثم الدَّليل الواقعي لهذا العطف الذي يُظهره من يعطي ويؤدي نعمة، والذي يجنيه ويجد نعمة، وأيضًا البهاء الذي يجذب النظر ويحافظ على الحظوة، واللفظة اليونانية ""charis تدلّ على الجاذبية الصَّادرة من الجمال، ثمّ على إشعاع الصَّلاح الباطني، وأخيراً على الهبات الَّتي تشهد على هذا السخاء
ثانياً: النِّعمة في العهد القديم: النِّعمة الَّتي كشف الله عنها وأعطاها في يسوع المسيح، قائمة في العهد القديم كوعد ورجاء؛ وإن كان ذلك في صور مختلفة، لكنَّها جامعة دائماً بين الله الذي يعطي والإنسان الذي ينال
أ- النِّعمة الكامنة في الله: إن النِّعمة في الله هي معاً، رحمة تعطف على الشقاء (حين)، وأمانة تفيض على ذويه (حيشد) وعلامة لا تتزعزع في تعهداته (إيميت)، وحنان القلب وتعلق كلّ الكيان بمن يحبهم (راحاميم)، وبرّ لن ينضب (صيديق)، ومن مفاعل نعمته تعالى، سلام ذويه وفرحهم، فقد تكون نعمة الله حياة أوفر غنى وكمالاً من جميع اختباراتنا
ب- إعلانات النِّعمة الإلهية: يفيض الله سخاءه على كل ذي جسد ويظهر بنوع ساطع في اختيار شعب إسرائيل، لأنها مبادرة مجّانية تماماً، ولم يكن لاختيار إسرائيل إلاَّ لسبب نعمة الإله الوفيّ ورمز هذه النِّعمة هو الأرضّ الَّتي أعطاها لشعبه
ج- يفيض الله نعمته على مختاريه: تعبّر أصدق تعبير عن أثر سخاء الله على الإنسان إنما هي لفظة بركة؛ فتنمّي لدى من ينالها الحياة والفرح وكمال القوَّة، وتقيم بين الله وخليقته لقاء شخصياً، وتجعل الله يلقي على الإنسان نظره وابتسامته، ولقد كان تاريخ إسرائيل تاريخ بركة معدّة لجميع الأمم، وأن نعمة الله هي محّبة أب، وهي تخلق له أبناء
ثالثاً: ظهور نعمة الله في يسوع المسيح: يبيّن مجيء يسوع المسيح إلى أيّ مدى يمكن أن يصل السَّخاء الإلهي، فهو يصل إلى درجة أن الله يسلم لنا ابنه بالذَّات، وهذه الصِّفات الممتزجة: الحنان والأمانة والرحمة والذي سوف يطلق عليها العهد الجديد اسماً مميزاً هو (النِّعمة)، وهي مقرونة عادة بالسَّلام في شخص المسيح، كذلك قد عرفنا الله في ابنه الوحيد، ومثلما عرفنا أن "الله محبّة " هكذا عندما نرى يسوع المسيح، نعرف أن عمله هو من قبيل النِّعمة؛ ولو أن الأناجيل الإزائيَة لا تستعمل لفظة النِّعمة، إلا أنها تدرك تماماً حقيقتها، وتؤكّد أن يسوع هو هبة الآب الأسمى، المسلَّم من أجلنا وأن إحساس يسوع بالشَّقاء البشريّ وتأثّره أمام العذاب يعبَران عن الحنان والرحمة
رابعاً: مجّانيّة النِّعمة: إن كانت نعمة الله هي السِّر في عمل الفداء، فهي أيضاً سرّ الطَّريقة الواقعيّة الَّتي بها يحصل كلّ مسيحيّ وكل كنيسة على هذا الفداء ويحييان به؛ فالكنائس المكدونية قد تلقت نعمة السخاء، وكنيسة فيلبي من نعمة الرِّسالة الَّتي تفسِّركل نشاط بولس؛ فالخلاص بحسب القديس بولس هو هبة الله، وليس أجراً قد استحقَّه عمل ما، و إلا لما بقيت النِّعمة نعمة، والإيمان بالوعد يحترم عمل الله الحقيقي الذي يقوم في كونه نعمة؛ لكن لا تكتفي نعمة الله بأن تخلِّصنا من الموت بإعلان التبرئة، لكنها تذهب في سخائها إلى أبعد الحدود وتفتح بلا تحفُّظ خزينة كنوز السَّخاء الإلهي الذي لا ينضب، وتوزِّع بلا حساب
خامساً: ثمار النِّعمة المتفاضلة: إن نعمة الله "ليست بعقيمة" بل تعطي الإيمان قوةً ونشاطاً لإنجاز الأعمال و"ليعمل بالمحبة" (غلاطية 5: 6)، وهي الأعمال الصَّالحة، فالنِّعمة عند الرسل، ينبوع نشاط لا ينضب، قد جعلت من بولس ما هو عليه وتعمل فيه كل ما يقوم به، وحيث إن النِّعمة مبدأ تحوُّل ونشاط، فهي تتطلَّب تعاوناً متواصلاً، وأن نكون مطيعين للنِّعمة وعاملين بها، فلا تغيب النِّعمة أبداً بل تكفي دائماً؛ فهكذا بالنِّعمة يولد المرء ولادة جديدة، للحياة بالرُّوح الذي يحيي أبناء الله؛ وأنّ المسيحي المدعو بالنِّعمة هو قائم في النِّعمة ويحيا في ظل حكمها؛ وأنّ نعمة المسيح هي عطيَّة الحياة وأن اختبار كنه الحياة هو اختبار الروحّ القدس؛ ونظام النِّعمة هو نظام الروح، فالإنسان الذي حرَّرَه الله من الخطيئة، يأتي بثمار القداسة والرُّوح الذي هو أسمى عطايا الله يشهد مع أرواحنا، وأننا بفضل النِّعمة صِرنا حقيقة أبناء الله، أفلا ننادي الله كأب قائلين: با أبتا! وهذا هو التبرير الذي تحقِّقه النِّعمة، وعندما يكشف المسيحي أن نعمة الله ينبوع كل تصرّفاته، يتَّخذ أمام البشر الموقف المناسب، أن يعتزّ بأنه نال بواسطة النِّعمة جميع الأشياء وفي مقدمتها البر. وهكذا يسرّ بولس أن يربط بين الفخر والنِّعمة، ففي نعمة الله ينجح الإنسان في تحقيق ذاته."(2)
النِّعمة
: العهد القديم
يقابلها كلمة "ح ن"وباليونانيَّة (خاريس) أي النِّعمة، "ح س د" وباليونانيَّة (الإيوس) أي الرَّحمة. أولاً: "ح ن"، تعني تطلّع وهو ينحني، وفي المعنى الأدبي: تنازل، تعطّف، رضي. كما في عبارة: "وجد حظوة في عيني..." (تك 6 :8)، وهب حظوة، ووجد حظوة، وهناك الحسن (أم 3 :22). ثانيًا: "ح س د" تعني المساعدة الأمينة الَّتي نستطيع أن ننتظرها من القريب، ومن هنا "وهب حظوة" أي ساعد وخدم، وبما أن هذه المساعدة هي فرضٌ يصدر عن التَّضامن، فالبيبليا تفرض على الإنسان، مع "حسد"، الحقّ والعدالة؛ غير أن العون الذي يُحمل للقريب، قد يكون نتيجة الحنان والُّلطف، إن هو جاء من إنسان قدير، لهذا تعني "حسد: "الحنان، اللطف، النِّعمة؛ وهذا الأمر يسري بشكل خاص حين تكون المساعدة آتية من الله، لأن "حسد" الله تستند إلى العهد الذي به ألزم نفسه طوعًا تجاه شعبه، فالله هو الذي يحفظ عهده والانسان التقيّ يعرف أنه يقدر أن ينتظر من إلهه العون، شرط أن يُتمّ متطلّبات العهد فيمارس شريعة الله؛ ولكن حين يتجاوز إسرائيل العهد، فالرب يحفظ مع ذلك أمانته شرط أن يعود الشَّعب إليه، لأنه "إله الحنان والرحمة... هنا ليست "ح س د" فقط العون والمساعدة، بل الرحمة (النِّعمة) الَّتي تغفر الخطيئة؛ لهذا تتوازى "حسد" الربّ مع حبّه الرَّحيم وعبارة "شكر الله " الَّتي تميّز روحانيّة المزامير تترجم فعل "ي د ه" أي "اتّجه، سجد، امتدح، اعترف، شكر
2) العهد الجديد
استعاد العهد الجديد من خلال لفظة "خاريس" أي النِّعمة، كل معاني "ح ن" و "ح د" في العهد القديم. والفكر البولسيّ (لا سيّمـا في روما) هو الذي يصوغ المعنى اللآهوتي للفظة "نعمة" كما سنجده في المسيحيّة. لا تكاد تظهر "خاريس" في الأناجيل، فهي غائبة تمامًا من متى ومرقس وهي نادرة في لوقا، ما عدا في المواضع الذي يتبع السبعينية، عندئذ تعني خاريس: رضى الله، حين أعلن الملاك لمريم أنها "وجدت نعمة" (نلت حظوة) لدى الله، أمَّا في أعمال الرُّسل فتُستعمل اللفظة مرارًا وهي تعني معنى بولسيًا واضحًا؛ ففي ختام خطبة بطرس لجماعة أورشليم: "بنعمة الرب يسوع نؤمن كما هم يخلصون"، هي تدلّ بشكل عام على العمل الذي يتمّمه الله في العالم وعلى سخائه وقدرته، وفي النِّهاية دلّت "خاريس" على الإنجيل نفسه، والمكانة الَّتي تحتلّها في الرسائل البولسيّة هي مركزيّة، فبولس هو الذي أعطى هذه اللَّفظة مكانتها في العقيدة المسيحيّة؛ وينهي رسائله بتمنٍ: "لتكن النِّعمة معكم"؛ فنحن لسنا فقط أمام عبارة تهذيبيّة ولا أمام تحيّة بسيطة، بل هو بولس يدعو لقرّائه بعطايا الله الَّتي تميّز الزَّمن الجديد الذي دشّنته قيامة المسيح، فتشكّل روما الشميلة الأساسيّة العقائديّة حول "النِّعمة"؛ إذ الله بررهم مجّانًا بنعمته بالمسيح يسوع الذي افتداهم (الاختيار بالنِّعمة) فما هو إذًا بالأعمال وإلاَّ لما بقيت النِّعمة نعمةً، ولقد نلنا بربنا يسوع المسيح الدُّخول بالإيمان إلى هذه النِّعمة الَّتي فيها نقيم، هذا شرط أن لا نكون خاضعين للخطيئة! فإن كانت الجماعة عرفت الموت بخطيئة إنسان واحد، فبالأحرى نعمة الله بإنسان واحد هو يسوع المسيح قد أفيضت بغزارة على الجماعة؛ فالحياة حسب الروح، والحياة في النِّعمة، والحياة في المسيح، ثلاث عبارات متوازية، وتستعيد أفسس بإيجاز المواضيع عينها؛ ويتحدّث بولس أيضاً عن عطيّة الله كمسؤولية سلّمت إلينا: "لا تُهمل الهبة الَّتي فيك" (1تم 4 :14)"(3)
خاتمة
أرجو في هذه الدِّراسة، أن أكون قد أصبت المعنى الرَّئيسي لموضوع النِّعمة من خلال المراجع القيِّمة، مما لا شك فيه هو أنها أساسيَّة في محاولة دراسة مصطلح ما، تاريخيَّته، أبعاده، وما تنطوي عليه من معانٍ متنوعة
المراجع
1- عبد الله بطرس (الدّكتور)، 1971.قاموس الكتاب المقدَّس، بيروت: مجمع الكنائس في الشَّرق الأدنى
2- مجموعة من الاختصاصييِّن، 1986.ط2:معجم اللآهوت الكتابي، دار المشرق: لبنان
3- الفغالي بولس (الخوري)، 2003، ط1: المحيط الجامع في الكتاب المقدَّس والشَّرق القديم، المكتبة البولسيَّة:جونية
اخترت في بحثي هذا موضوع النِّعمة، وقد حاولت أن أجد المراجع الكافية لمحاولة إصابة المعنى العميق الَّذي تحمله هذه الكلمة ومحاول الإحاطة بالمعاني الَّتي يحملها هذا الموضوع، وقد وضعت المعنى الأوَّل بحسب ما ورد في قاموس الكتاب المقدَّس، ثم في المعجم اللاهوتيّ، وأخيرًا في المحيط الجامع؛ ولقد وجدت الكثير من المعاني المتعددة لهذا الموضوع، بالإضافة إلى تشعُّبات من ناحية اللغة والتَّعابير والمصطلحات الَّتي تصبّ في خامة موضوع النِّعمة، ولا ننسى معانيها المختلفة في الكتاب المقدَّس، بعهديه القديم والجديد
"النِّعمة"
: هي إظهار محبة الله للخطأة، ونعمة الله تخلّص من الخطيئة بدون أن يستحقوا ذلك، ولذلك يسمَّى الإنجيل (بشارة نعمة الله)، وكان بولس يبدأ رسالته "بنعمة الله"؛ وكان الله المرموز إليه بالرَّاعي يسمِّي أحد عَصَوَيه (نعمة) إشارة إلى نعمته نحو شعبه (زك11: 7و 10
"أوّلاً: هذه اللَّفظة لم تَخْتَلِقْهَا المسيحيّة، بل هي واردة في العهد القديم؛ ولكن العهد الجديد قد حدّد معناها وأعطاها كلّ أبعادها، وقد استعملها ليصف النِّظام الجديد الذي أسَّسَه يسوع المسيح إزاء التدبير القديم الخاضع للشريعة، بينما المعنى الثاني هو عهد النِّعمة، إذ إن النِّعمة هي عطيَّة من الله تحوي كلّ العطايا، أي هبة ابنه؛ فهي هبة تشعّ بسخاء المعطي وتغمر الخليقة بالسَّخاء، فيجد من ينالها حظوةً أمام الله؛ فتُفسّر كلمة "نعمة" باللاتينية (gratia) لفظاً عبرياً وآخر يونانيّاً، يدل كل منهما على ينبوع الهبة لدى من يعطي وعلى نتيجة الهبة لدى من ينال؛ فاللفظة العبرّية "حنّ " تصف المحبَّة والعطف المجّاني في شخص عالي المقام؛ ثم الدَّليل الواقعي لهذا العطف الذي يُظهره من يعطي ويؤدي نعمة، والذي يجنيه ويجد نعمة، وأيضًا البهاء الذي يجذب النظر ويحافظ على الحظوة، واللفظة اليونانية ""charis تدلّ على الجاذبية الصَّادرة من الجمال، ثمّ على إشعاع الصَّلاح الباطني، وأخيراً على الهبات الَّتي تشهد على هذا السخاء
ثانياً: النِّعمة في العهد القديم: النِّعمة الَّتي كشف الله عنها وأعطاها في يسوع المسيح، قائمة في العهد القديم كوعد ورجاء؛ وإن كان ذلك في صور مختلفة، لكنَّها جامعة دائماً بين الله الذي يعطي والإنسان الذي ينال
أ- النِّعمة الكامنة في الله: إن النِّعمة في الله هي معاً، رحمة تعطف على الشقاء (حين)، وأمانة تفيض على ذويه (حيشد) وعلامة لا تتزعزع في تعهداته (إيميت)، وحنان القلب وتعلق كلّ الكيان بمن يحبهم (راحاميم)، وبرّ لن ينضب (صيديق)، ومن مفاعل نعمته تعالى، سلام ذويه وفرحهم، فقد تكون نعمة الله حياة أوفر غنى وكمالاً من جميع اختباراتنا
ب- إعلانات النِّعمة الإلهية: يفيض الله سخاءه على كل ذي جسد ويظهر بنوع ساطع في اختيار شعب إسرائيل، لأنها مبادرة مجّانية تماماً، ولم يكن لاختيار إسرائيل إلاَّ لسبب نعمة الإله الوفيّ ورمز هذه النِّعمة هو الأرضّ الَّتي أعطاها لشعبه
ج- يفيض الله نعمته على مختاريه: تعبّر أصدق تعبير عن أثر سخاء الله على الإنسان إنما هي لفظة بركة؛ فتنمّي لدى من ينالها الحياة والفرح وكمال القوَّة، وتقيم بين الله وخليقته لقاء شخصياً، وتجعل الله يلقي على الإنسان نظره وابتسامته، ولقد كان تاريخ إسرائيل تاريخ بركة معدّة لجميع الأمم، وأن نعمة الله هي محّبة أب، وهي تخلق له أبناء
ثالثاً: ظهور نعمة الله في يسوع المسيح: يبيّن مجيء يسوع المسيح إلى أيّ مدى يمكن أن يصل السَّخاء الإلهي، فهو يصل إلى درجة أن الله يسلم لنا ابنه بالذَّات، وهذه الصِّفات الممتزجة: الحنان والأمانة والرحمة والذي سوف يطلق عليها العهد الجديد اسماً مميزاً هو (النِّعمة)، وهي مقرونة عادة بالسَّلام في شخص المسيح، كذلك قد عرفنا الله في ابنه الوحيد، ومثلما عرفنا أن "الله محبّة " هكذا عندما نرى يسوع المسيح، نعرف أن عمله هو من قبيل النِّعمة؛ ولو أن الأناجيل الإزائيَة لا تستعمل لفظة النِّعمة، إلا أنها تدرك تماماً حقيقتها، وتؤكّد أن يسوع هو هبة الآب الأسمى، المسلَّم من أجلنا وأن إحساس يسوع بالشَّقاء البشريّ وتأثّره أمام العذاب يعبَران عن الحنان والرحمة
رابعاً: مجّانيّة النِّعمة: إن كانت نعمة الله هي السِّر في عمل الفداء، فهي أيضاً سرّ الطَّريقة الواقعيّة الَّتي بها يحصل كلّ مسيحيّ وكل كنيسة على هذا الفداء ويحييان به؛ فالكنائس المكدونية قد تلقت نعمة السخاء، وكنيسة فيلبي من نعمة الرِّسالة الَّتي تفسِّركل نشاط بولس؛ فالخلاص بحسب القديس بولس هو هبة الله، وليس أجراً قد استحقَّه عمل ما، و إلا لما بقيت النِّعمة نعمة، والإيمان بالوعد يحترم عمل الله الحقيقي الذي يقوم في كونه نعمة؛ لكن لا تكتفي نعمة الله بأن تخلِّصنا من الموت بإعلان التبرئة، لكنها تذهب في سخائها إلى أبعد الحدود وتفتح بلا تحفُّظ خزينة كنوز السَّخاء الإلهي الذي لا ينضب، وتوزِّع بلا حساب
خامساً: ثمار النِّعمة المتفاضلة: إن نعمة الله "ليست بعقيمة" بل تعطي الإيمان قوةً ونشاطاً لإنجاز الأعمال و"ليعمل بالمحبة" (غلاطية 5: 6)، وهي الأعمال الصَّالحة، فالنِّعمة عند الرسل، ينبوع نشاط لا ينضب، قد جعلت من بولس ما هو عليه وتعمل فيه كل ما يقوم به، وحيث إن النِّعمة مبدأ تحوُّل ونشاط، فهي تتطلَّب تعاوناً متواصلاً، وأن نكون مطيعين للنِّعمة وعاملين بها، فلا تغيب النِّعمة أبداً بل تكفي دائماً؛ فهكذا بالنِّعمة يولد المرء ولادة جديدة، للحياة بالرُّوح الذي يحيي أبناء الله؛ وأنّ المسيحي المدعو بالنِّعمة هو قائم في النِّعمة ويحيا في ظل حكمها؛ وأنّ نعمة المسيح هي عطيَّة الحياة وأن اختبار كنه الحياة هو اختبار الروحّ القدس؛ ونظام النِّعمة هو نظام الروح، فالإنسان الذي حرَّرَه الله من الخطيئة، يأتي بثمار القداسة والرُّوح الذي هو أسمى عطايا الله يشهد مع أرواحنا، وأننا بفضل النِّعمة صِرنا حقيقة أبناء الله، أفلا ننادي الله كأب قائلين: با أبتا! وهذا هو التبرير الذي تحقِّقه النِّعمة، وعندما يكشف المسيحي أن نعمة الله ينبوع كل تصرّفاته، يتَّخذ أمام البشر الموقف المناسب، أن يعتزّ بأنه نال بواسطة النِّعمة جميع الأشياء وفي مقدمتها البر. وهكذا يسرّ بولس أن يربط بين الفخر والنِّعمة، ففي نعمة الله ينجح الإنسان في تحقيق ذاته."(2)
النِّعمة
: العهد القديم
يقابلها كلمة "ح ن"وباليونانيَّة (خاريس) أي النِّعمة، "ح س د" وباليونانيَّة (الإيوس) أي الرَّحمة. أولاً: "ح ن"، تعني تطلّع وهو ينحني، وفي المعنى الأدبي: تنازل، تعطّف، رضي. كما في عبارة: "وجد حظوة في عيني..." (تك 6 :8)، وهب حظوة، ووجد حظوة، وهناك الحسن (أم 3 :22). ثانيًا: "ح س د" تعني المساعدة الأمينة الَّتي نستطيع أن ننتظرها من القريب، ومن هنا "وهب حظوة" أي ساعد وخدم، وبما أن هذه المساعدة هي فرضٌ يصدر عن التَّضامن، فالبيبليا تفرض على الإنسان، مع "حسد"، الحقّ والعدالة؛ غير أن العون الذي يُحمل للقريب، قد يكون نتيجة الحنان والُّلطف، إن هو جاء من إنسان قدير، لهذا تعني "حسد: "الحنان، اللطف، النِّعمة؛ وهذا الأمر يسري بشكل خاص حين تكون المساعدة آتية من الله، لأن "حسد" الله تستند إلى العهد الذي به ألزم نفسه طوعًا تجاه شعبه، فالله هو الذي يحفظ عهده والانسان التقيّ يعرف أنه يقدر أن ينتظر من إلهه العون، شرط أن يُتمّ متطلّبات العهد فيمارس شريعة الله؛ ولكن حين يتجاوز إسرائيل العهد، فالرب يحفظ مع ذلك أمانته شرط أن يعود الشَّعب إليه، لأنه "إله الحنان والرحمة... هنا ليست "ح س د" فقط العون والمساعدة، بل الرحمة (النِّعمة) الَّتي تغفر الخطيئة؛ لهذا تتوازى "حسد" الربّ مع حبّه الرَّحيم وعبارة "شكر الله " الَّتي تميّز روحانيّة المزامير تترجم فعل "ي د ه" أي "اتّجه، سجد، امتدح، اعترف، شكر
2) العهد الجديد
استعاد العهد الجديد من خلال لفظة "خاريس" أي النِّعمة، كل معاني "ح ن" و "ح د" في العهد القديم. والفكر البولسيّ (لا سيّمـا في روما) هو الذي يصوغ المعنى اللآهوتي للفظة "نعمة" كما سنجده في المسيحيّة. لا تكاد تظهر "خاريس" في الأناجيل، فهي غائبة تمامًا من متى ومرقس وهي نادرة في لوقا، ما عدا في المواضع الذي يتبع السبعينية، عندئذ تعني خاريس: رضى الله، حين أعلن الملاك لمريم أنها "وجدت نعمة" (نلت حظوة) لدى الله، أمَّا في أعمال الرُّسل فتُستعمل اللفظة مرارًا وهي تعني معنى بولسيًا واضحًا؛ ففي ختام خطبة بطرس لجماعة أورشليم: "بنعمة الرب يسوع نؤمن كما هم يخلصون"، هي تدلّ بشكل عام على العمل الذي يتمّمه الله في العالم وعلى سخائه وقدرته، وفي النِّهاية دلّت "خاريس" على الإنجيل نفسه، والمكانة الَّتي تحتلّها في الرسائل البولسيّة هي مركزيّة، فبولس هو الذي أعطى هذه اللَّفظة مكانتها في العقيدة المسيحيّة؛ وينهي رسائله بتمنٍ: "لتكن النِّعمة معكم"؛ فنحن لسنا فقط أمام عبارة تهذيبيّة ولا أمام تحيّة بسيطة، بل هو بولس يدعو لقرّائه بعطايا الله الَّتي تميّز الزَّمن الجديد الذي دشّنته قيامة المسيح، فتشكّل روما الشميلة الأساسيّة العقائديّة حول "النِّعمة"؛ إذ الله بررهم مجّانًا بنعمته بالمسيح يسوع الذي افتداهم (الاختيار بالنِّعمة) فما هو إذًا بالأعمال وإلاَّ لما بقيت النِّعمة نعمةً، ولقد نلنا بربنا يسوع المسيح الدُّخول بالإيمان إلى هذه النِّعمة الَّتي فيها نقيم، هذا شرط أن لا نكون خاضعين للخطيئة! فإن كانت الجماعة عرفت الموت بخطيئة إنسان واحد، فبالأحرى نعمة الله بإنسان واحد هو يسوع المسيح قد أفيضت بغزارة على الجماعة؛ فالحياة حسب الروح، والحياة في النِّعمة، والحياة في المسيح، ثلاث عبارات متوازية، وتستعيد أفسس بإيجاز المواضيع عينها؛ ويتحدّث بولس أيضاً عن عطيّة الله كمسؤولية سلّمت إلينا: "لا تُهمل الهبة الَّتي فيك" (1تم 4 :14)"(3)
خاتمة
أرجو في هذه الدِّراسة، أن أكون قد أصبت المعنى الرَّئيسي لموضوع النِّعمة من خلال المراجع القيِّمة، مما لا شك فيه هو أنها أساسيَّة في محاولة دراسة مصطلح ما، تاريخيَّته، أبعاده، وما تنطوي عليه من معانٍ متنوعة
المراجع
1- عبد الله بطرس (الدّكتور)، 1971.قاموس الكتاب المقدَّس، بيروت: مجمع الكنائس في الشَّرق الأدنى
2- مجموعة من الاختصاصييِّن، 1986.ط2:معجم اللآهوت الكتابي، دار المشرق: لبنان
3- الفغالي بولس (الخوري)، 2003، ط1: المحيط الجامع في الكتاب المقدَّس والشَّرق القديم، المكتبة البولسيَّة:جونية