رسالة صاحب الغبطة البطريرك غريغوريوس الثَّالثبطريرك أنطاكية وسائر المشرق والاسكندريَّة وأورشليمللرُّوم المَلَكيِّين الكاثوليكبمناسبة عيد الفصح المجيد من غريغوريوسَ عبدِ يسوعَ المسيح برحمةِ الله تعالىبطريرك أنطاكية وسائر المشرقوالإسكندريّة وأورشليم
إلى الإخوة السَّادة المطارنة، أعضاء المجمع المقدَّس الموقَّرين
وسائر أبنائنا وبناتنا بالمسيحِ يسوع، إكليروسًا وشعبًا،
المدعوِّين قدِّيسين، مع جميع الذين يَدعُون باسم ربِّنا يسوع المسيح، ربِّهم وربِّنا
نعمةٌ لكم وسلامٌ من الله أبينا، والرَّبِّ يسوع المسيح (اكور: 1-3). دربُ صليبِ العالمِ العربيّإلى القيامة
المسيح قام! حقًّا قام!
لكم جميعًا أيُّها الإخوة والأخوات، أصحابُ السِّيادة والرُّؤساءُ العامُّون والرَّئيساتُ العامَّات، والكهنة والرُّهبان والرَّاهبات، وأبناءُ وبناتُ رعايانا الرُّوم الملَكيِّين الكاثوليك في البلاد العربيَّة وبلاد الانتشار وفي كلِّ مكان، أحرُّ التَّهاني والأماني بعيد قيامة ربِّنا وإلهنا ومخلِّصنا يسوع المسيح الحاملة الأمل والرَّجاء إلينا.
إليكم أسوق تأمُّلاتي الرُّوحيَّة بعنوان: "درب صليب العالم العربيّ إلى القيامة". وأحاول من خلال هذه الرِّسالة، أن أُلقي أضواءَ القيامة ومعانيها السَّامية على أوضاع بلادنا العربيَّة، لكي يُفضيَ دربُ صليبها أيضًا إلى أفراح القيامة وآمالها.
درب الصَّليب سبيلٌ إلى القيامة!
هكذا يمكننا أن نختصر مرحلة الصَّوم الأربعيني الكبير. إلى هذا تشير صلواتنا الطَّقسيَّة منذ اليوم الأوَّل من الصَّوم. ويُدعى اثنين الرَّاهب: "لنبتدئ بالإمساك (الصَّوم) الكامل الإكرام مسرورين... لكي نَبلُغَ مُضيئين... إلى قيامة المسيح المقدَّسة، الثلاثيَّة الأيَّام المبهجة المسكونة" (سحَر الاثنين الأوَّل من الصَّوم).
دربُ صليبِ العالم العربيّ
لقد بدأ درب صليب العالم العربي قُبَيل مطلع العام الميلادي الجديد 2011. وها نحن كما يقول السَّيِّد المسيح: "نسمع بحروبٍ وأخبار حروب... وتقوم أمَّةٌ على أمَّة... وتصير زلازل وأوبئة في أماكن شتَّى... ويزهق البشر..." (متَّى 24: 4-12).
إنَّه دربُ صليبٍ يسيرُ عليه بتعثُّر، أكثرُ من 350 مليونًا من سكَّان العالم العربي، انطلاقًا من المغرب العربي في شمال إفريقيا (تونس وليبيا)، مرورًا بمصر إلى الجزيرة العربيَّة، ودول الخليج، إلى البحرين واليمن، لكي يرتدَّ هذا الدَّرب إلى لبنان والأردنّ وسورية. وكما تسير طريق الآلام مخترقةً شوارع القدس من شرقها إلى غربها، هكذا تحوَّلت البلاد العربيَّة إلى مدينة قدسٍ كبيرة، فيها بستانُ الزَّيتون، مكانُ نزاع السَّيِّد المسيح، ودربُ آلامه، وجلجلته، وقيامته. لا بل طال وامتدَّ دربُ آلام القدس، فأصبحتْ دروبُ العالم العربيّ والكثيرُ من ساحاته الواسعة الجميلة المزيَّنة بمعالم الهندسة، دربَ آلام طويلاً، وجلجلةً داميةً محزنة، تتكدَّسُ فيها جثث القتلى، ويبكي أمام صليبها، ويئنُّ تحته، جرحى وأرامل ويتامى ومشرَّدون ومهشَّمون في قلوبهم وضمائرهم وأجسادهم. وتتعالى فيها أصواتٌ ثائرة، مهدِّدة. وترتفع أيادٍ، لا للصَّلاة، بل للثأر، مُشْهِرةً سلاح الانتقام والدَّمار... ويجوع النَّاس، ويهجرون أوطانهم وبيوتهم، ويهربون، ويخافون، ويتوهون لا مأوى ولا مخرج، من بلدٍ إلى بلد، يستقبلهم أو يرفضهم... أو يبيتون في العراء على حدود البلاد المجاورة...
هذا هو المشهد الذي تُمْعِنُ في تصويره المئاتُ من الفضائيَّات، وتُضخِّمه، وتستغلُّه! وأمامها يتسمَّرُ الملايين من البشر، رجالاً ونساءً وشيوخًا وكهولاً وشبَّانًا، وشابَّاتٍ وأطفالاً يتعلَّمون الهتافات الثوريَّة من شاشات التلفزيون ويُردِّدونها باندفاعٍ وحماسة...
ها نحن لا نزال نتكلَّمُ عن صليب فلسطين والقدس وجلجلتها وآلامها على مدى أكثر من ستِّين سنة... واليوم العالم العربيّ كلُّه يسير على دروبٍ أكثر دمويَّة من درب صليب فلسطين والفلسطينيين... والدِّماءُ تسيل... ويموتُ الإنسان... ويجوع العالم العربيّ الغنيّ بموارده وبخاصَّةٍ البترول، يجوع إلى خبز الحرِّيَّة والكرامة، كما إلى لقمة العيش الكريم... ويتشرَّدُ الإنسان في وطنه... أمام ثورة تُخلِّفُ الفوضى والنَّهب والسَّرقة والرُّعب والضَّياع. ولا يعلم إلاَّ الله وحده إلى أين ستقود عالمنا العربيّ، التَّائهَ لا يدري ما هو البديل وإلى أين المصير.
وتكثر التحاليل ويتبارى المحلِّلون السِّياسيُّون والاجتماعيُّون والاقتصاديُّون، على شاشات التلفزيون، محاولين شرح أسباب هذه الثورات العارمة التي اجتاحت عالمنا العربيّ، باحثين عن أسبابها، في الدَّاخل والخارج، في إسرائيل وأميركا والاستعمار، والأطماع والمصالح السِّياسيَّة والاقتصاديَّة.
كرامةُ الإنسان
أمام هذه المحاولات لتحليل هذا الواقع العربيّ الثَّوري وأسبابه، تردني كلمة من قداسة البابا بندكتوس السَّادس عشر في رسالته ليوم السَّلام العالميّ لعام 2009، جاء فيها: "كلُّ شكلٍ من أشكال الفقر، يجد جذوره في غياب احترام كرامة الشخص البشريّ المتسامية. وعندما لا يُعتَبَرُ الإنسانُ في كامل دعوته، ولا تُحترَمُ مُقتضياتُ بيئةٍ بشريَّةٍ حقيقيَّة، تتفجَّر آليَّاتُ الفقر الشرِّيرة".(الرِّسالة، رقم 2).
وبهذا المعنى ألقيتُ عظةً في عيد البشارة في دير الرَّاهبات الشويريَّات يوم 24 آذار 2011، وأردتُ أن أُظهر عظمة "تجسُّد" يسوع من أحشاء مريم البتول. لأنَّه عندما أخذ جسدًا مثل جسدنا بالتَّمام، إنَّما أراد أن يُظهر لنا كرامةَ الجسد، وبالتالي كرامة الإنسان الذي خلقه الله على صورته ومثاله، كما ورد في سفر التكوين في وصف خلق الله للإنسان.
كم يحتاجُ عالمنا إلى فهمِ كرامة الجسد وكرامة الله! كرامة الإنسان كما أكرمه الله وخلَقه على صورته ومثاله! حرِّيَّته! قيمته! تطويره! تربيته!
عالمنا اليوم، والعربيّ خاصَّةً منذ مطلع هذا العام الميلاديّ، في ثورة كرامة الإنسان وحرِّيَّته وقيمته!
كرامة الله واحترامه واحترام صورته الإلهيَّة مرتبطةٌ باحترام صورة الإنسان. وبالعكس لا إكرام لله بدون إكرام الإنسان كما قال يوحنَّا الحبيب: "إن قال أحدٌ "إنِّي أُحبُّ الله"، وهو يُبغض أخاه، فهو كاذب. فمن لا يُحبُّ أخاه (الإنسان) وهو يراه، فلا يستطيع أن يُحبَّ الله الذي لا يراه" (1 يوحنَّا 4: 20). وهذا من أسباب الحروب والثورات في العالم بأسره.
عيد البشارة هو عيد دخول الله في تاريخ الإنسان وحياته من خلال مريم ومن دماء مريم، وهو الله معنا (عمَّانوئيل). وعندما يرفض الإنسانُ اللهَ أو يُقصيه من حياته، تتدهور وتتصدَّع وتتشوَّه حياة الإنسان... يقول المثل: كنْ مع الله ولا تبالي. وبالمقابل نقول: إقصاءُ الله من حياة الإنسان، وفكره، ومسلكه، وخلقيَّته، وسياسته، واقتصاده، وحياته الاجتماعيَّة، وأسرته، ومهنته، وعمله... يضعُ الإنسان في اضطراب، وضياع، وحيرة، وقلق، ويأس، ويُدخل البغض والحسد والسُّلطويَّة، والعنف والإرهاب والأصوليَّة إلى قلبه... وتصبح هذه الأمور برنامجه بدل وصايا الله، وبدل مبادئه الإيمانيَّة، وقيَمه الدِّينيَّة... وهذه مأساة عالمنا اليوم، وامتدت هذه المأساة الزَّاحفة المدمِّرة، المجتاحة (تسونامي إقصاء الله من حياة الإنسان) إلى عالمنا العربي...
فَلْنُنْزِلِ الفقيرَ عن الصَّليب، ولنُنزِلْ عالمنا العربيّ عن الصَّليب 1
"وبثقةٍ وتواضعٍ، أُحبُّ أن أطلق من خلال هذه الرِّسالة الشِّعار: لا فقير بعد اليوم! وأدعو إلى تحقيق هذا الشِّعار داخل كنيستي الرُّوميّة المَلَكيّة، ولو جُزئيّاً، وكُلٌّ حسَبَ مَقدرته، وفي مُحيطه. وأدعو إلى تحقيقه بتضامن وتواصل وتعاون في عالمنا العربي. وفيه الموارد الكثيرة، وبخاصَّة البترول! وليَكُن البترول سِلاحاً ضدَّ الفقر والمرض والكوارث وما إليها... لا بل أقول: فليكن البترول هو الذي يُواكب مسيرة درب صليب عالمنا العربي. وليكن البترول هو الذي يُنزل الإنسانَ العربيَّ الفقيرَ والمريضَ والمتألِّمَ والمقهورَ والمغلوبَ على أمره... يُنزله عن صليبه! ويوصله إلى قمَّة القيامة!.
"هذه دعوتي إلى كنيستنا! وهذه هي دعوتي إلى عالمنا العربي المحبوب. وأريد أن أكون رسولاً وخادماً لهذا الشِّعار، لأجل تحقيق هذه الدَّعوة! وإنَّني أتوجَّهُ إلى كُلِّ رئيسٍ عربي، وكُلِّ رجُلِ أعمال وثريِّ، آملاً أن يُسمعَ ندائي. لا بل أنا مُستعدّ أن أكون رسولاً لهذا الشِّعار، أجوب العالم العربي حاملاً هذا الشِّعار: لا فقر بعد اليوم في العالم العربي!
"لا بل هذه دعوةٌ إلهيّة، نستمدُّها جميعاً مسيحيِّين ومُسلمين، من قيَم إيماننا، ونجد لها صدى في الكُتُب المقدَّسة. إنَّها دعوة تجمعُنا حول كلمةٍ سواء، وعمل مُشترك، لكي يسير الله معنا، ونحن نسير معًا، مع شعوبنا، مع مواطنينا، على درب صليبهم وجُلجلتهم، لكي نُساعد في إنزالهم عن الصَّليب!".
خبزُ الإنسان الحقيقيّ
الإنسان في جوع وعطش إلى الله! إنَّه بحاجة إلى قيَم الإيمان المقدَّس، إلى كلمة الله تعالى، كما يقول الكتاب المقدَّس: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلِّ كلمةٍ تخرجُ من فمِ الله" (متَّى 4: 4).
إنَّ ما يحتاج إليه مجتمعنا لأجل إصلاحه "وشفائه" وترميمه وتجديده، وتطويره، وإنهاضه من عثراته، لا بل لأجل قيامته الحقيقيَّة، وبعثهِ، وتألُّقهِ وتجلِّيه، وإشراقه، ونقائه، هو الله!
يتغذَّى الإنسان أوَّلاً بكلمة الله. ولكنَّه يحتاج أيضًا إلى الخبز المادِّي... كما يحتاج إلى خبز الحياة، أعني: التعليم والمدرسة والجامعة والطَّبابة والعمل، والوظيفة والمهنة والسَّكن والضَّمان على صحَّته وحياته ومستقبله وشيخوخته وعجزه وإعاقته... كما يحتاج إلى بيئةٍ صالحة، نظيفة، وهواءٍ نقيٍّ، وطبيعةٍ جميلة، ورفاهية، وبحبوحة، واستجمام...
هذا كلُّه خبز الإنسان الحقيقيّ! وهذه شروطٌ أوَّليَّة لكرامته ولأجل إعطائه الفرص لأجل الرُّقيّ، والإبداع، والتَّخصُّص، والعطاء والإنتاج، وخدمة وطنه والتَّفاني في سببيل المواطنين، والتضامن معهم والتواصل والتفاهم والتعاون معهم، لأجل عالمٍ أفضل. بحيث ينعم الإنسان في وطنه بالحرِّيَّة والكرامة والأمن والأمان والاستقرار، ويتطلَّع إلى آفاقٍ أوسع من الأمل والرَّجاء والمحبَّة والأخوَّة الشاملة، واحترام الآخر وحرِّيَّته ومعتقده وإيمانه وخصوصيَّته.
إلى هذه يجب أن يقود درب آلام عالمنا العربيّ، ودرب ثوراته، ومظاهراته. إنَّها القيامة من بين الأموات! القيامة يجب أن تكون ثمرة آلامه ودمائه وجوعه وعطشه، وجِراحه وضحاياه الكثيرة...
دور الكنيسة
ولا بدَّ أن تُتابع كنائسنا ورهبانيَّاتنا دورها الإيمانيّ الكنسي والوطني، وتطوِّر خدماتها الرُّوحيَّة والثقافيَّة والتربويَّة والصِّحيَّة والشبابيَّة والاجتماعيَّة على أنواعها. لكي تُسهِم في قيامة شعوب بلادنا العربيَّة، وفي المشروع الوطني والسِّياسي والاجتماعي والاقتصادي في كلٍّ من أوطاننا حيث يتواجد أبناؤنا، وبخاصَّةٍ رجالُ الأعمال والسِّياسة والاجتماع.
وعلينا أن نُكثِّف جهودنا انطلاقًا من توصيات السَّينودس لأجل الشرق الأوسط الذي عُقِدَ في روما في تشرين ألأوَّل الماضي 2010. وقد أرسلنا إليكم مشروع "خطَّة خمسيَّة" تتضمَّن رزمةً من الأفكار والتوجُّهات والمشاريع والأعمال والمبادرات، من شأنها أن تساعد كنائسنا في المساهمة في خدمة وتطوير مجتمعاتنا وأوطاننا. ونحثُّ الجميع على دراسة هذه الخطَّة، وأن يقدِّموا الاقتراحات المناسبة لأجل تطويرها. ونأمل أن نعالجها في سينودسنا (مجمعنا) السَّنويّ في المقرِّ البطريركيّ في عين تراز في حزيران المقبل 2011. ونعوِّل عليها كثيرًا لأجل مواكبة تطوُّر أوطاننا، ودعم حضورنا وشركتنا وشهادتنا ورسالتنا تجاه هذه الأوطان، وتجاه جميع مواطنينا الأحبَّاء.
ومع قداسة البابا بندكتوس السَّادس عشر في رسالته المذكورة عن السَّلام نقول: "إنَّ الجماعة المسيحيَّة، أمانةً منها لدعوة سيِّدها، لن تكِلَّ في توفير عونها للأسرة البشريَّة بكاملها، وفي دعم وثبات التضامن الخلاَّق، لأجل تغيير أنماط الحياة وأساليب الإنتاج، والاستهلاك، والبنيات السُّلطويَّة القائمة على تسوُّس المجتمعات المعاصرة" (الرَّقم 15)
وحدةُ الصَّفِّ العربيّ
ويا ليت جامعة الدُّول العربيَّة ودول جامعة الدُّول الإسلاميَّة تجتمع لتعالج واقع الثورة في البلاد العربيَّة، فنضع معًا برنامجًا جديدًا لشرق أوسط عربيّ جديد، نضعه نحن وليس غيرنا، يضمن شروط العيش الكريم لمواطني هذا الشرق الأوسط العربيّ المسيحيّ الإسلاميّ، مهدِ الدِّيانات والحضارات.
إنَّ وحدة الصَّفِّ العربيّ شرطٌ هامٌّ جدًّا أمام هذه التطوُّرات الخطيرة، وهذه الثورات الجماعيَّة وهذه الانتفاضة.
إذا لم تعالج الدُّول العربيَّة مجتمعةً وبصوتٍ واحد هذه التطوُّرات المأساويَّة الدَّمويَّة بالفطنة والحنكة والحكمة والوعي والانفتاح والتصميم والوضوح والشفافيَّة والصَّراحة... فإنَّ المستقبل خطيرٌ جدًّا ومظلمٌ لنا كلِّنا. فلا بلد عربي بمنأى اليوم عن امتداد هذه الثورة إليه.
واليوم أكثر من ذي قبل، واليوم وليس غدًا، لا بدَّ من الوعي والمشورة والخطَّة الجماعيَّة العربيَّة المشتركة. اليوم لا بدَّ من رؤيةٍ مستقبليَّة عربيَّة إسلاميَّة مسيحيَّة واضحة، وواسعة الآفاق. وإلاَّ فإنَّ عالمنا العربي بمسيحيِّيه ومسلميه وبكلِّ طوائفه معرَّضٌ إلى التفكُّك والانقسام والشرذمة، بحيث يتفتَّت إلى دويلاتٍ طائفيَّة منعزلة متقوقعة متعادية متحاربة!
السَّلام مفتاح المستقبل
من جهةٍ أخرى علينا أن نشير إلى عاملٍ مهمٍّ جدًّا في تحقيق كلّ هذه المترجيَّات، وهو السَّلام. فلا يمكن للعالم العربي أن يُحقِّق آمال الشعوب العربيَّة وبخاصَّةٍ آمال الشباب في الحرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة، إذا لم يعمل بجدِّيَّةٍ وبالتعاون مع الغرب، على إحقاق السَّلام العادل والشامل والدَّائم في الأرض المقدَّسة، في فلسطين. وإنَّما تؤخذ الدُّنيا غلابًا! وبالوحدة والمحبَّة بين الدُّول العربيَّة تتحقَّق الغلبة. فالوحدة لا تُغلَب أبدًا! والمحبَّة لا تسقطُ أبدًا!
حلم: قمَّة عربيَّة روحيَّة مسيحيَّة _ إسلاميَّة
هل أكون ساذجًا أو حالماً أو مثاليًّا، إذا جرأتُ وطرحتُ فكرة ومشروع عقد قمَّة روحيَّة عربيَّة إسلاميَّة مسيحيَّة؟! إنَّها دعوةٌ إلى كلمةٍ سواء، إلى خطَّةٍ سواء، إلى إغناء وإنعاش عالمنا العربيّ بقيَم إيماننا المسيحيّ _ الإسلاميّ، لكي تكون لجميع مواطنينا الحياة وبوفرة! أضعُ هذه الفكرة وهذا الحلم في قلبِ وفكرِ وصلاةِ ودعاءِ وأحلامِ كلِّ مَن يقرأ هذه الرِّسالة! والله يُعطي أحلامنا أن تُثمر إيمانًا ورجاءً ومحبَّة!
أيُّها الإخوة والأخوات!دعوةٌ إلى الصَّلاة
في هذا العام يحتفل العالم المسيحي شرقًا وغربًا، وتحتفل كنائسنا هنا بعيد القيامة في يومٍ واحد. ونأمَل أن نبقى نحتفل معًا بأكبر أعياد إيماننا المسيحي المقدَّس.
وإنَّنا ندعوكم ونحن نعيش هذه الأيَّام العسيرة، ونحن نسير مع إخوتنا ومواطنينا في عالمنا العربيّ، على دربِ آلامٍ لم يعرفه التاريخ العربيّ من قبل، ندعوكم لكي ترفعوا الصَّلوات الحارَّة، بخاصَّةٍ في الأسبوع العظيم المقدَّس، الذي ندعوه أسبوع الآلام، لأجل جميع الذين سقطوا في هذه الثورات الدَّامية، ولأجل المحزونين والمرضى، والمشرَّدين واللاجئين، والهاربين أمام أهوال الثورة. ولأجل الأطفال والشباب وطلاَّب المدارس الذين يُحرَمون من متابعة دروسهم وتحصيلهم العلميّ، وربَّما مستقبلهم، ويعيشون أجواءً من العنف والانتقام والثورة "والبلطجيَّة" والثَّأر والكراهيَّة والعداء. وهذه كلُّها سيكون لها وبدون شكّ تأثيرٌ كبيرٌ على أخلاقهم وأطباعهم وشخصيَّتهم وحياتهم الإيمانيَّة والوطنيَّة والبيتيَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة.
نُصلِّي في كلِّ كنائسنا وأديارنا ورعايانا، وفي بيوتنا، وضمن حرم عائلاتنا، لأجل عالمنا العربيّ المتألِّم. ولأجل التعاون والأخوَّة. نُصلِّي بنوعٍ خاصّ لأجل حكَّامنا والملوك والرُّؤساء. ولأجل جميع المسؤولين في بلادنا، ولأجل الجيش ورجال الأمن والشرطة والمسؤولين الأمنيِّين، لكي يُعطيهم الرَّبُّ إلهنا الحكمة والفطنة وسداد الرَّأي في معالجة هذه الأوضاع المأساويَّة... ولكي يتجاوبوا مع مطالب وآمال وآلام وتطلُّعات وحاجات المواطنين. ويعملوا جاهدين لوضع وتنفيذ برنامجٍ إجتماعي وسياسي، يؤمِّن حياةً كريمةً لجميع المواطنين.
يا عالمنا العربيّ: لكَ قيامة
يروي لنا القدِّيس يوحنَّا الإنجيلي أعجوبة إنهاض لعازر صديق يسوع من الموت. وفيها نقرأ خطاب يسوع لمريم أخت لعازر ويقول لها: "لا تخافي! سيقوم أخوكِ".
ونحن نقول لكلِّ مؤمن، ولكلِّ إنسان: لك أنت قيامة! ونخاطب عالمنا العربيّ المتألِّم: لكَ أنتَ أيضًا قيامة! وندعو حكَّامنا في بلادنا العربيَّة إلى آمال القيامة، لكي يعملوا بكلِّ جدٍّ وتضحيةٍ وإخلاص وصدقٍ وتصميم وبدون تأخير لأجل مستقبلٍ أفضل لشعوبهم. ويقولوا لشعوبهم: لكم قيامة! ستقوم أيُّها الإنسان المواطن! سيبقى رأسكَ مرفوعًا! أنتَ كريمٌ لدى الرَّبّ وفي وطنك! لكَ أنتَ قيامة!
ونأمل أن تغزو أفراح قيامة سيِّدنا ومخلِّصنا يسوع المسيح عالمنا العربيّ وجميعَ مواطنينا، مسيحيِّين ومسلمين، بكلِّ طوائفهم، بحيث نفرح معًا كما تألَّمنا معًا! وكما سِرنا معًا على درب الصَّليب والآلام، نسيرُ معًا على دروب القيامة البهيجة.
أناشيدُ القيامة
ومع أنغام أناشيد القيامة نحمل فرحها وآمالها وبهجتها إلى قلوب الجميع، نابذين الخوف والهواجس والاضطراب جانبًا. ونقول مع ترانيم القدِّيس يوحنَّا الدِّمشقيّ ابن سورية، والذي لا نزال ننشد أناشيده في العالم بأسره، وننشد:
"اليوم يوم القيامة، فلنتفاخر أيُّها الشعوب! فالفصحُ (أي العبور) فصحُ الرَّبّ. لأنَّ المسيح إلهنا قد أجازنا من الموتِ إلى الحياة، ومن الأرضِ إلى السَّماء. نحن المرنِّمين نشيد الانتصار".
وننشد أيضًا: "أمسِ دُفِنتُ معكَ أيُّها المسيح! واليومَ أنهضُ معكَ بقيامتكَ! أمسِ صُلبتُ معكَ! فأنتَ يا مخلِّصُ مجِّدني معكَ بقيامتكَ".
ونتوجَّه إلى أمِّنا مريم العذراء! لقد رافقتْ درب آلام ابنها. وهي ترافقنا في درب آلامنا، ومعها نفرح اليوم بقيامة ابنها المجيدة، التي هي قيامتنا كلِّنا، لا بل هي قيامة أوطاننا وجميع مواطنينا.
وننشد بإيمانٍ ورجاءٍ ومحبَّةٍ وثقةٍ مشدِّدين بعضُنا بعضًا ومتضامنين ومتحابِّين في كلِّ كنائسنا وأوطاننا ومجتمعاتنا، مواطنين مسيحيِّين ومسلمين، ننشد نشيد القيامة والحياة:
"المسيحُ قام من بين الأموات، ووطئَ الموت بالموت، ووهبَ الحياة للذين في القبور"
مع محبَّتي وبركتي + غريغوريوس الثّالثبطريرك أنطاكية وسائر المشرق والاسكندريّة وأورشليم للرُّوم الملَكيِّين الكاثوليك
في 24 نيسان 2011
إلى الإخوة السَّادة المطارنة، أعضاء المجمع المقدَّس الموقَّرين
وسائر أبنائنا وبناتنا بالمسيحِ يسوع، إكليروسًا وشعبًا،
المدعوِّين قدِّيسين، مع جميع الذين يَدعُون باسم ربِّنا يسوع المسيح، ربِّهم وربِّنا
نعمةٌ لكم وسلامٌ من الله أبينا، والرَّبِّ يسوع المسيح (اكور: 1-3). دربُ صليبِ العالمِ العربيّإلى القيامة
المسيح قام! حقًّا قام!
لكم جميعًا أيُّها الإخوة والأخوات، أصحابُ السِّيادة والرُّؤساءُ العامُّون والرَّئيساتُ العامَّات، والكهنة والرُّهبان والرَّاهبات، وأبناءُ وبناتُ رعايانا الرُّوم الملَكيِّين الكاثوليك في البلاد العربيَّة وبلاد الانتشار وفي كلِّ مكان، أحرُّ التَّهاني والأماني بعيد قيامة ربِّنا وإلهنا ومخلِّصنا يسوع المسيح الحاملة الأمل والرَّجاء إلينا.
إليكم أسوق تأمُّلاتي الرُّوحيَّة بعنوان: "درب صليب العالم العربيّ إلى القيامة". وأحاول من خلال هذه الرِّسالة، أن أُلقي أضواءَ القيامة ومعانيها السَّامية على أوضاع بلادنا العربيَّة، لكي يُفضيَ دربُ صليبها أيضًا إلى أفراح القيامة وآمالها.
درب الصَّليب سبيلٌ إلى القيامة!
هكذا يمكننا أن نختصر مرحلة الصَّوم الأربعيني الكبير. إلى هذا تشير صلواتنا الطَّقسيَّة منذ اليوم الأوَّل من الصَّوم. ويُدعى اثنين الرَّاهب: "لنبتدئ بالإمساك (الصَّوم) الكامل الإكرام مسرورين... لكي نَبلُغَ مُضيئين... إلى قيامة المسيح المقدَّسة، الثلاثيَّة الأيَّام المبهجة المسكونة" (سحَر الاثنين الأوَّل من الصَّوم).
دربُ صليبِ العالم العربيّ
لقد بدأ درب صليب العالم العربي قُبَيل مطلع العام الميلادي الجديد 2011. وها نحن كما يقول السَّيِّد المسيح: "نسمع بحروبٍ وأخبار حروب... وتقوم أمَّةٌ على أمَّة... وتصير زلازل وأوبئة في أماكن شتَّى... ويزهق البشر..." (متَّى 24: 4-12).
إنَّه دربُ صليبٍ يسيرُ عليه بتعثُّر، أكثرُ من 350 مليونًا من سكَّان العالم العربي، انطلاقًا من المغرب العربي في شمال إفريقيا (تونس وليبيا)، مرورًا بمصر إلى الجزيرة العربيَّة، ودول الخليج، إلى البحرين واليمن، لكي يرتدَّ هذا الدَّرب إلى لبنان والأردنّ وسورية. وكما تسير طريق الآلام مخترقةً شوارع القدس من شرقها إلى غربها، هكذا تحوَّلت البلاد العربيَّة إلى مدينة قدسٍ كبيرة، فيها بستانُ الزَّيتون، مكانُ نزاع السَّيِّد المسيح، ودربُ آلامه، وجلجلته، وقيامته. لا بل طال وامتدَّ دربُ آلام القدس، فأصبحتْ دروبُ العالم العربيّ والكثيرُ من ساحاته الواسعة الجميلة المزيَّنة بمعالم الهندسة، دربَ آلام طويلاً، وجلجلةً داميةً محزنة، تتكدَّسُ فيها جثث القتلى، ويبكي أمام صليبها، ويئنُّ تحته، جرحى وأرامل ويتامى ومشرَّدون ومهشَّمون في قلوبهم وضمائرهم وأجسادهم. وتتعالى فيها أصواتٌ ثائرة، مهدِّدة. وترتفع أيادٍ، لا للصَّلاة، بل للثأر، مُشْهِرةً سلاح الانتقام والدَّمار... ويجوع النَّاس، ويهجرون أوطانهم وبيوتهم، ويهربون، ويخافون، ويتوهون لا مأوى ولا مخرج، من بلدٍ إلى بلد، يستقبلهم أو يرفضهم... أو يبيتون في العراء على حدود البلاد المجاورة...
هذا هو المشهد الذي تُمْعِنُ في تصويره المئاتُ من الفضائيَّات، وتُضخِّمه، وتستغلُّه! وأمامها يتسمَّرُ الملايين من البشر، رجالاً ونساءً وشيوخًا وكهولاً وشبَّانًا، وشابَّاتٍ وأطفالاً يتعلَّمون الهتافات الثوريَّة من شاشات التلفزيون ويُردِّدونها باندفاعٍ وحماسة...
ها نحن لا نزال نتكلَّمُ عن صليب فلسطين والقدس وجلجلتها وآلامها على مدى أكثر من ستِّين سنة... واليوم العالم العربيّ كلُّه يسير على دروبٍ أكثر دمويَّة من درب صليب فلسطين والفلسطينيين... والدِّماءُ تسيل... ويموتُ الإنسان... ويجوع العالم العربيّ الغنيّ بموارده وبخاصَّةٍ البترول، يجوع إلى خبز الحرِّيَّة والكرامة، كما إلى لقمة العيش الكريم... ويتشرَّدُ الإنسان في وطنه... أمام ثورة تُخلِّفُ الفوضى والنَّهب والسَّرقة والرُّعب والضَّياع. ولا يعلم إلاَّ الله وحده إلى أين ستقود عالمنا العربيّ، التَّائهَ لا يدري ما هو البديل وإلى أين المصير.
وتكثر التحاليل ويتبارى المحلِّلون السِّياسيُّون والاجتماعيُّون والاقتصاديُّون، على شاشات التلفزيون، محاولين شرح أسباب هذه الثورات العارمة التي اجتاحت عالمنا العربيّ، باحثين عن أسبابها، في الدَّاخل والخارج، في إسرائيل وأميركا والاستعمار، والأطماع والمصالح السِّياسيَّة والاقتصاديَّة.
كرامةُ الإنسان
أمام هذه المحاولات لتحليل هذا الواقع العربيّ الثَّوري وأسبابه، تردني كلمة من قداسة البابا بندكتوس السَّادس عشر في رسالته ليوم السَّلام العالميّ لعام 2009، جاء فيها: "كلُّ شكلٍ من أشكال الفقر، يجد جذوره في غياب احترام كرامة الشخص البشريّ المتسامية. وعندما لا يُعتَبَرُ الإنسانُ في كامل دعوته، ولا تُحترَمُ مُقتضياتُ بيئةٍ بشريَّةٍ حقيقيَّة، تتفجَّر آليَّاتُ الفقر الشرِّيرة".(الرِّسالة، رقم 2).
وبهذا المعنى ألقيتُ عظةً في عيد البشارة في دير الرَّاهبات الشويريَّات يوم 24 آذار 2011، وأردتُ أن أُظهر عظمة "تجسُّد" يسوع من أحشاء مريم البتول. لأنَّه عندما أخذ جسدًا مثل جسدنا بالتَّمام، إنَّما أراد أن يُظهر لنا كرامةَ الجسد، وبالتالي كرامة الإنسان الذي خلقه الله على صورته ومثاله، كما ورد في سفر التكوين في وصف خلق الله للإنسان.
كم يحتاجُ عالمنا إلى فهمِ كرامة الجسد وكرامة الله! كرامة الإنسان كما أكرمه الله وخلَقه على صورته ومثاله! حرِّيَّته! قيمته! تطويره! تربيته!
عالمنا اليوم، والعربيّ خاصَّةً منذ مطلع هذا العام الميلاديّ، في ثورة كرامة الإنسان وحرِّيَّته وقيمته!
كرامة الله واحترامه واحترام صورته الإلهيَّة مرتبطةٌ باحترام صورة الإنسان. وبالعكس لا إكرام لله بدون إكرام الإنسان كما قال يوحنَّا الحبيب: "إن قال أحدٌ "إنِّي أُحبُّ الله"، وهو يُبغض أخاه، فهو كاذب. فمن لا يُحبُّ أخاه (الإنسان) وهو يراه، فلا يستطيع أن يُحبَّ الله الذي لا يراه" (1 يوحنَّا 4: 20). وهذا من أسباب الحروب والثورات في العالم بأسره.
عيد البشارة هو عيد دخول الله في تاريخ الإنسان وحياته من خلال مريم ومن دماء مريم، وهو الله معنا (عمَّانوئيل). وعندما يرفض الإنسانُ اللهَ أو يُقصيه من حياته، تتدهور وتتصدَّع وتتشوَّه حياة الإنسان... يقول المثل: كنْ مع الله ولا تبالي. وبالمقابل نقول: إقصاءُ الله من حياة الإنسان، وفكره، ومسلكه، وخلقيَّته، وسياسته، واقتصاده، وحياته الاجتماعيَّة، وأسرته، ومهنته، وعمله... يضعُ الإنسان في اضطراب، وضياع، وحيرة، وقلق، ويأس، ويُدخل البغض والحسد والسُّلطويَّة، والعنف والإرهاب والأصوليَّة إلى قلبه... وتصبح هذه الأمور برنامجه بدل وصايا الله، وبدل مبادئه الإيمانيَّة، وقيَمه الدِّينيَّة... وهذه مأساة عالمنا اليوم، وامتدت هذه المأساة الزَّاحفة المدمِّرة، المجتاحة (تسونامي إقصاء الله من حياة الإنسان) إلى عالمنا العربي...
فَلْنُنْزِلِ الفقيرَ عن الصَّليب، ولنُنزِلْ عالمنا العربيّ عن الصَّليب 1
"وبثقةٍ وتواضعٍ، أُحبُّ أن أطلق من خلال هذه الرِّسالة الشِّعار: لا فقير بعد اليوم! وأدعو إلى تحقيق هذا الشِّعار داخل كنيستي الرُّوميّة المَلَكيّة، ولو جُزئيّاً، وكُلٌّ حسَبَ مَقدرته، وفي مُحيطه. وأدعو إلى تحقيقه بتضامن وتواصل وتعاون في عالمنا العربي. وفيه الموارد الكثيرة، وبخاصَّة البترول! وليَكُن البترول سِلاحاً ضدَّ الفقر والمرض والكوارث وما إليها... لا بل أقول: فليكن البترول هو الذي يُواكب مسيرة درب صليب عالمنا العربي. وليكن البترول هو الذي يُنزل الإنسانَ العربيَّ الفقيرَ والمريضَ والمتألِّمَ والمقهورَ والمغلوبَ على أمره... يُنزله عن صليبه! ويوصله إلى قمَّة القيامة!.
"هذه دعوتي إلى كنيستنا! وهذه هي دعوتي إلى عالمنا العربي المحبوب. وأريد أن أكون رسولاً وخادماً لهذا الشِّعار، لأجل تحقيق هذه الدَّعوة! وإنَّني أتوجَّهُ إلى كُلِّ رئيسٍ عربي، وكُلِّ رجُلِ أعمال وثريِّ، آملاً أن يُسمعَ ندائي. لا بل أنا مُستعدّ أن أكون رسولاً لهذا الشِّعار، أجوب العالم العربي حاملاً هذا الشِّعار: لا فقر بعد اليوم في العالم العربي!
"لا بل هذه دعوةٌ إلهيّة، نستمدُّها جميعاً مسيحيِّين ومُسلمين، من قيَم إيماننا، ونجد لها صدى في الكُتُب المقدَّسة. إنَّها دعوة تجمعُنا حول كلمةٍ سواء، وعمل مُشترك، لكي يسير الله معنا، ونحن نسير معًا، مع شعوبنا، مع مواطنينا، على درب صليبهم وجُلجلتهم، لكي نُساعد في إنزالهم عن الصَّليب!".
خبزُ الإنسان الحقيقيّ
الإنسان في جوع وعطش إلى الله! إنَّه بحاجة إلى قيَم الإيمان المقدَّس، إلى كلمة الله تعالى، كما يقول الكتاب المقدَّس: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلِّ كلمةٍ تخرجُ من فمِ الله" (متَّى 4: 4).
إنَّ ما يحتاج إليه مجتمعنا لأجل إصلاحه "وشفائه" وترميمه وتجديده، وتطويره، وإنهاضه من عثراته، لا بل لأجل قيامته الحقيقيَّة، وبعثهِ، وتألُّقهِ وتجلِّيه، وإشراقه، ونقائه، هو الله!
يتغذَّى الإنسان أوَّلاً بكلمة الله. ولكنَّه يحتاج أيضًا إلى الخبز المادِّي... كما يحتاج إلى خبز الحياة، أعني: التعليم والمدرسة والجامعة والطَّبابة والعمل، والوظيفة والمهنة والسَّكن والضَّمان على صحَّته وحياته ومستقبله وشيخوخته وعجزه وإعاقته... كما يحتاج إلى بيئةٍ صالحة، نظيفة، وهواءٍ نقيٍّ، وطبيعةٍ جميلة، ورفاهية، وبحبوحة، واستجمام...
هذا كلُّه خبز الإنسان الحقيقيّ! وهذه شروطٌ أوَّليَّة لكرامته ولأجل إعطائه الفرص لأجل الرُّقيّ، والإبداع، والتَّخصُّص، والعطاء والإنتاج، وخدمة وطنه والتَّفاني في سببيل المواطنين، والتضامن معهم والتواصل والتفاهم والتعاون معهم، لأجل عالمٍ أفضل. بحيث ينعم الإنسان في وطنه بالحرِّيَّة والكرامة والأمن والأمان والاستقرار، ويتطلَّع إلى آفاقٍ أوسع من الأمل والرَّجاء والمحبَّة والأخوَّة الشاملة، واحترام الآخر وحرِّيَّته ومعتقده وإيمانه وخصوصيَّته.
إلى هذه يجب أن يقود درب آلام عالمنا العربيّ، ودرب ثوراته، ومظاهراته. إنَّها القيامة من بين الأموات! القيامة يجب أن تكون ثمرة آلامه ودمائه وجوعه وعطشه، وجِراحه وضحاياه الكثيرة...
دور الكنيسة
ولا بدَّ أن تُتابع كنائسنا ورهبانيَّاتنا دورها الإيمانيّ الكنسي والوطني، وتطوِّر خدماتها الرُّوحيَّة والثقافيَّة والتربويَّة والصِّحيَّة والشبابيَّة والاجتماعيَّة على أنواعها. لكي تُسهِم في قيامة شعوب بلادنا العربيَّة، وفي المشروع الوطني والسِّياسي والاجتماعي والاقتصادي في كلٍّ من أوطاننا حيث يتواجد أبناؤنا، وبخاصَّةٍ رجالُ الأعمال والسِّياسة والاجتماع.
وعلينا أن نُكثِّف جهودنا انطلاقًا من توصيات السَّينودس لأجل الشرق الأوسط الذي عُقِدَ في روما في تشرين ألأوَّل الماضي 2010. وقد أرسلنا إليكم مشروع "خطَّة خمسيَّة" تتضمَّن رزمةً من الأفكار والتوجُّهات والمشاريع والأعمال والمبادرات، من شأنها أن تساعد كنائسنا في المساهمة في خدمة وتطوير مجتمعاتنا وأوطاننا. ونحثُّ الجميع على دراسة هذه الخطَّة، وأن يقدِّموا الاقتراحات المناسبة لأجل تطويرها. ونأمل أن نعالجها في سينودسنا (مجمعنا) السَّنويّ في المقرِّ البطريركيّ في عين تراز في حزيران المقبل 2011. ونعوِّل عليها كثيرًا لأجل مواكبة تطوُّر أوطاننا، ودعم حضورنا وشركتنا وشهادتنا ورسالتنا تجاه هذه الأوطان، وتجاه جميع مواطنينا الأحبَّاء.
ومع قداسة البابا بندكتوس السَّادس عشر في رسالته المذكورة عن السَّلام نقول: "إنَّ الجماعة المسيحيَّة، أمانةً منها لدعوة سيِّدها، لن تكِلَّ في توفير عونها للأسرة البشريَّة بكاملها، وفي دعم وثبات التضامن الخلاَّق، لأجل تغيير أنماط الحياة وأساليب الإنتاج، والاستهلاك، والبنيات السُّلطويَّة القائمة على تسوُّس المجتمعات المعاصرة" (الرَّقم 15)
وحدةُ الصَّفِّ العربيّ
ويا ليت جامعة الدُّول العربيَّة ودول جامعة الدُّول الإسلاميَّة تجتمع لتعالج واقع الثورة في البلاد العربيَّة، فنضع معًا برنامجًا جديدًا لشرق أوسط عربيّ جديد، نضعه نحن وليس غيرنا، يضمن شروط العيش الكريم لمواطني هذا الشرق الأوسط العربيّ المسيحيّ الإسلاميّ، مهدِ الدِّيانات والحضارات.
إنَّ وحدة الصَّفِّ العربيّ شرطٌ هامٌّ جدًّا أمام هذه التطوُّرات الخطيرة، وهذه الثورات الجماعيَّة وهذه الانتفاضة.
إذا لم تعالج الدُّول العربيَّة مجتمعةً وبصوتٍ واحد هذه التطوُّرات المأساويَّة الدَّمويَّة بالفطنة والحنكة والحكمة والوعي والانفتاح والتصميم والوضوح والشفافيَّة والصَّراحة... فإنَّ المستقبل خطيرٌ جدًّا ومظلمٌ لنا كلِّنا. فلا بلد عربي بمنأى اليوم عن امتداد هذه الثورة إليه.
واليوم أكثر من ذي قبل، واليوم وليس غدًا، لا بدَّ من الوعي والمشورة والخطَّة الجماعيَّة العربيَّة المشتركة. اليوم لا بدَّ من رؤيةٍ مستقبليَّة عربيَّة إسلاميَّة مسيحيَّة واضحة، وواسعة الآفاق. وإلاَّ فإنَّ عالمنا العربي بمسيحيِّيه ومسلميه وبكلِّ طوائفه معرَّضٌ إلى التفكُّك والانقسام والشرذمة، بحيث يتفتَّت إلى دويلاتٍ طائفيَّة منعزلة متقوقعة متعادية متحاربة!
السَّلام مفتاح المستقبل
من جهةٍ أخرى علينا أن نشير إلى عاملٍ مهمٍّ جدًّا في تحقيق كلّ هذه المترجيَّات، وهو السَّلام. فلا يمكن للعالم العربي أن يُحقِّق آمال الشعوب العربيَّة وبخاصَّةٍ آمال الشباب في الحرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة، إذا لم يعمل بجدِّيَّةٍ وبالتعاون مع الغرب، على إحقاق السَّلام العادل والشامل والدَّائم في الأرض المقدَّسة، في فلسطين. وإنَّما تؤخذ الدُّنيا غلابًا! وبالوحدة والمحبَّة بين الدُّول العربيَّة تتحقَّق الغلبة. فالوحدة لا تُغلَب أبدًا! والمحبَّة لا تسقطُ أبدًا!
حلم: قمَّة عربيَّة روحيَّة مسيحيَّة _ إسلاميَّة
هل أكون ساذجًا أو حالماً أو مثاليًّا، إذا جرأتُ وطرحتُ فكرة ومشروع عقد قمَّة روحيَّة عربيَّة إسلاميَّة مسيحيَّة؟! إنَّها دعوةٌ إلى كلمةٍ سواء، إلى خطَّةٍ سواء، إلى إغناء وإنعاش عالمنا العربيّ بقيَم إيماننا المسيحيّ _ الإسلاميّ، لكي تكون لجميع مواطنينا الحياة وبوفرة! أضعُ هذه الفكرة وهذا الحلم في قلبِ وفكرِ وصلاةِ ودعاءِ وأحلامِ كلِّ مَن يقرأ هذه الرِّسالة! والله يُعطي أحلامنا أن تُثمر إيمانًا ورجاءً ومحبَّة!
أيُّها الإخوة والأخوات!دعوةٌ إلى الصَّلاة
في هذا العام يحتفل العالم المسيحي شرقًا وغربًا، وتحتفل كنائسنا هنا بعيد القيامة في يومٍ واحد. ونأمَل أن نبقى نحتفل معًا بأكبر أعياد إيماننا المسيحي المقدَّس.
وإنَّنا ندعوكم ونحن نعيش هذه الأيَّام العسيرة، ونحن نسير مع إخوتنا ومواطنينا في عالمنا العربيّ، على دربِ آلامٍ لم يعرفه التاريخ العربيّ من قبل، ندعوكم لكي ترفعوا الصَّلوات الحارَّة، بخاصَّةٍ في الأسبوع العظيم المقدَّس، الذي ندعوه أسبوع الآلام، لأجل جميع الذين سقطوا في هذه الثورات الدَّامية، ولأجل المحزونين والمرضى، والمشرَّدين واللاجئين، والهاربين أمام أهوال الثورة. ولأجل الأطفال والشباب وطلاَّب المدارس الذين يُحرَمون من متابعة دروسهم وتحصيلهم العلميّ، وربَّما مستقبلهم، ويعيشون أجواءً من العنف والانتقام والثورة "والبلطجيَّة" والثَّأر والكراهيَّة والعداء. وهذه كلُّها سيكون لها وبدون شكّ تأثيرٌ كبيرٌ على أخلاقهم وأطباعهم وشخصيَّتهم وحياتهم الإيمانيَّة والوطنيَّة والبيتيَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة.
نُصلِّي في كلِّ كنائسنا وأديارنا ورعايانا، وفي بيوتنا، وضمن حرم عائلاتنا، لأجل عالمنا العربيّ المتألِّم. ولأجل التعاون والأخوَّة. نُصلِّي بنوعٍ خاصّ لأجل حكَّامنا والملوك والرُّؤساء. ولأجل جميع المسؤولين في بلادنا، ولأجل الجيش ورجال الأمن والشرطة والمسؤولين الأمنيِّين، لكي يُعطيهم الرَّبُّ إلهنا الحكمة والفطنة وسداد الرَّأي في معالجة هذه الأوضاع المأساويَّة... ولكي يتجاوبوا مع مطالب وآمال وآلام وتطلُّعات وحاجات المواطنين. ويعملوا جاهدين لوضع وتنفيذ برنامجٍ إجتماعي وسياسي، يؤمِّن حياةً كريمةً لجميع المواطنين.
يا عالمنا العربيّ: لكَ قيامة
يروي لنا القدِّيس يوحنَّا الإنجيلي أعجوبة إنهاض لعازر صديق يسوع من الموت. وفيها نقرأ خطاب يسوع لمريم أخت لعازر ويقول لها: "لا تخافي! سيقوم أخوكِ".
ونحن نقول لكلِّ مؤمن، ولكلِّ إنسان: لك أنت قيامة! ونخاطب عالمنا العربيّ المتألِّم: لكَ أنتَ أيضًا قيامة! وندعو حكَّامنا في بلادنا العربيَّة إلى آمال القيامة، لكي يعملوا بكلِّ جدٍّ وتضحيةٍ وإخلاص وصدقٍ وتصميم وبدون تأخير لأجل مستقبلٍ أفضل لشعوبهم. ويقولوا لشعوبهم: لكم قيامة! ستقوم أيُّها الإنسان المواطن! سيبقى رأسكَ مرفوعًا! أنتَ كريمٌ لدى الرَّبّ وفي وطنك! لكَ أنتَ قيامة!
ونأمل أن تغزو أفراح قيامة سيِّدنا ومخلِّصنا يسوع المسيح عالمنا العربيّ وجميعَ مواطنينا، مسيحيِّين ومسلمين، بكلِّ طوائفهم، بحيث نفرح معًا كما تألَّمنا معًا! وكما سِرنا معًا على درب الصَّليب والآلام، نسيرُ معًا على دروب القيامة البهيجة.
أناشيدُ القيامة
ومع أنغام أناشيد القيامة نحمل فرحها وآمالها وبهجتها إلى قلوب الجميع، نابذين الخوف والهواجس والاضطراب جانبًا. ونقول مع ترانيم القدِّيس يوحنَّا الدِّمشقيّ ابن سورية، والذي لا نزال ننشد أناشيده في العالم بأسره، وننشد:
"اليوم يوم القيامة، فلنتفاخر أيُّها الشعوب! فالفصحُ (أي العبور) فصحُ الرَّبّ. لأنَّ المسيح إلهنا قد أجازنا من الموتِ إلى الحياة، ومن الأرضِ إلى السَّماء. نحن المرنِّمين نشيد الانتصار".
وننشد أيضًا: "أمسِ دُفِنتُ معكَ أيُّها المسيح! واليومَ أنهضُ معكَ بقيامتكَ! أمسِ صُلبتُ معكَ! فأنتَ يا مخلِّصُ مجِّدني معكَ بقيامتكَ".
ونتوجَّه إلى أمِّنا مريم العذراء! لقد رافقتْ درب آلام ابنها. وهي ترافقنا في درب آلامنا، ومعها نفرح اليوم بقيامة ابنها المجيدة، التي هي قيامتنا كلِّنا، لا بل هي قيامة أوطاننا وجميع مواطنينا.
وننشد بإيمانٍ ورجاءٍ ومحبَّةٍ وثقةٍ مشدِّدين بعضُنا بعضًا ومتضامنين ومتحابِّين في كلِّ كنائسنا وأوطاننا ومجتمعاتنا، مواطنين مسيحيِّين ومسلمين، ننشد نشيد القيامة والحياة:
"المسيحُ قام من بين الأموات، ووطئَ الموت بالموت، ووهبَ الحياة للذين في القبور"
مع محبَّتي وبركتي + غريغوريوس الثّالثبطريرك أنطاكية وسائر المشرق والاسكندريّة وأورشليم للرُّوم الملَكيِّين الكاثوليك
في 24 نيسان 2011