"يا يوسف بن داود، لا تخف أن تاخذ مريم امرأتك"
تتأمّل الكنيسة اليوم في البيان ليوسف، وهو بشارة الملاك له، إذ تراءى له في الحلم، وكشف تصميم الله الخلاصي وسرّ حبل مريم، ودوره بأن يكون أباً ومربّياً ليسوع المولود فيها من الروح القدس، هذا المزمع ان يخلّص الشعب من خطاياهم. ويشجّعه على الدخول في تصميم الله بكلمته المطمئنة التي أخرجته من قلقه وحملته على الرجوع عن قراره المحقّ في نظره بتطليق مريم سرّاً: "يا يوسف بن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك" (متى 1: 20). وهذا ما فعل يوسف بطاعة وحبّ واتّكال على عناية الله، "فلمّا قام من النوم، فعل كما أمره ملاك الربّ وأخذ مريم امرأته" (متى1: 24
إنّنا نرحّب بكم جميعاً، وقد أتيتُم من مختلف المناطق، في هذا الأحد قبل الأخير السابق لعيد ميلاد الربّ يسوع. يندرج مجيئكم في مسيرة الشعوب والأجيال نحو المسيح، محطّ انتظاراتها ومحور التاريخ، ورفيق الدرب لكلّ إنسان وجماعة. إنّه عمانوئيل "إلهنا معنا" الذي يقول لكم، كما قال ليوسف ولمريم ولزكريا: "لا تخف، لا تخافوا"
يسعدنا أن نحيّي بنوع خاصّ رؤساء البلديات والمخاتير ومجالسهم الآتين من المتن، وعلى رأسهم سعادة القائمقام الآنسة مارلين حداد، وأشكرهم على تقديم الموزاييك التذكارية للقاء الشركة مع قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، الموضوعة بالقرب من هذه الكابلة. كما نحيّي سعادة السفير الجديد لدى الأرجنتين السيد انطونيو عنداري مع عائلته، متمنّين له النجاح في مهمّته الديبلوماسية، وفي جمع شمل اللّبنانيين المنتشرين في الأرجنتين، هو الذي اعتاد على هذا العمل كعضو فاعل في المؤسسة المارونية للانتشار. كما نرحّب أيضاً بنادي شبيبة مزياره مع السيد سليم دنيا، معرباً لهم عن امتناني وشكري لتقديم درع النادي المذهّب والنفيس، وقد كتبوا عليه جملة تتلاءم مع موضوع هذا الأحد: "لا تخف، أنت مختار من الروح القدس"
ونرحّب بكاهن رعية بسوس ومجموعة موسيقاها التي نلتقيها في زياراتنا الراعوية ونقدّر عطاءاتها. وأحيّي بالأسى والرجاء عائلة فقيد بلدتهم المرحوم الشهيد بيار شفيق الفغالي الذي نذكره معكم في هذه الذبيحة المقدّسة. فتحيّة عزاء وتضامن لعائلته الحاضرة معنا ولجميع أنسبائه وأهل بسوس العزيزة. إنّنا إذ نصلّي لراحة نفس العزيز بيار ولعزاء أسرته، ندين بشدّة اغتياله بوحشية على يد من سبق ومدّه بالمساعدة وزمرة من الأشرار، الذين سلخوه عن زوجته وأولاده الأربعة وهو في الحادية والخمسين من العمر". فنطالب القضاء اللبناني كشف المجرمين القتلة وإنزال أشدّ العقوبات بهم، لقاء شرّهم الكبير، وتجنيباً للمجتمع من شرورهم وشرور أمثالهم. لكنّنا نقول لهؤلاء أنّ الربّ الإله، السيد الوحيد للحياة والموت، يقضّ مضجعهم ويعذّب ضميرهم الذي لا يمكن أن يموت فيهم، ولو مات يوم قتلوا بيار، لأنّه صوت الله في داخل كلّ إنسان. يطالبهم وكلَّ من يمدّ يد القتل على أخيه الإنسان، في أيّ حال أوظرف أو سبب، كما طالب قايين قاتل أخيه هابيل: "أين أخوك؟ ماذا فعلت به؟ إنّ صوت دماء أخيك يصرخ إليّ من الأرض. والآن فملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دماء أخيك من يدك" (تك4: 9-11). ولا يمكن أن يتناسى إنسان وصيّة الله الآمرة: "لا تقتل
لكنّني أؤكّد لكم، يا أسرته العزيزة، أنّ الله يقول لكم: "لا تخافوا! أنا معكم ورفيق دربكم وحزنكم ومستقبلكم. لا تخافوا، بل تعزّوا، فشهيدكم بيار ينعم بمجد السماء ويشفع بكم". إنّ المسيح ابن الله، الذي نسير نحو ذكرى ميلاده، هو المخلّص والفادي الذي مات على الصليب وافتدانا، وبقيامته رفعنا إلى الحياة الجديدة. إنّه ينير ظلمة الحزن وأحداث حياتنا. فلا بدّ من قراءتها على ضوء صليبه وكلمته
هو الملاك أمام تصميم الله الكبير، وصغر حجم الإنسان وضعفه، يقول ليوسف: "لا تخف" أن تدخل في تصميم الله الذي ينكشف لك في أحداث حياتك وظروفك، وأن تلتمس إرادته وأنوارها. ولكلّ واحد منّا يقول: لا تخف أن تقول الحقيقة، أن تصنع الخير بسخاء لكلّ محتاج، أن تقف إلى جانب العدالة والإنصاف، أن تستحضر الله قبل القيام بأيّ عمل، لكي لا يكون مسيئاً له أو لأي إنسان، أن تقول "لا" للشرّ. لا تخف، وأنت مسؤول في العائلة أو الكنيسة أو المجتمع أو الدولة، أن تخرج من مصالحك الخاصّة ومن المصالح الفئوية والانقسام والعداوة، وأن تلتزم الخير العام في كلّ ما هو حقّ وعدل
ما جرى ليوسف يجري مع كلّ إنسان. الله يخاطب نفوسنا وقلوبنا بكلامه مباشرة في الكتب المقدّسة، وبتعليم الكنيسة. يخاطبنا بصوته في داخلنا من خلال الضمير. يخاطبنا بإلهامات روحه القدّوس. وعندما يخاطبنا، يكشف لنا عن إرادته وعن دورنا في تصميمه الخلاصي، ويوجّه مشاريع حياتنا في اتّجاه إرادته وتصميمه، يغيّر فيها بعض الشيء ويرفعها إلى مستوى أرفع. فلنفكّر كيف ثبّت زواج يوسف ومريم، وجعله زواجاً بتوليّاً وُلد منه ابن الله في الجسد البشري بقوّة الروح القدس. فكرّس الزوجان يوسف ومريم الأبوّة والأمومة، القلب والفكر والجسد وكلّ الحبّ البتولي، لابن الله المولود في بيتهما، ولعمل الخلاص والفداء كشريكين مخلصين، فدخلا بطاعة وحبّ في عمق تصميم الله وخطّ إرادته
إنّنا نلتمس نعمة التمييز التي تحلّى بها يوسف. فأمام حيرته من حبل مريم ومن معنى وجوده كزوج ومن دوره في هذا السرّ الإلهي الذي يعلو إدراكه، وأمام القرار الذي اتّخذه بتطليق مريم سرّاً، لأنّه رجل بارّ، ظهر له الملاك في الحلم، وكشف له حقيقة سرّ حبل مريم، ودوره كزوج شرعي لها، وأبٍ مربّ ليسوع، الإله الذي يخلّص شعبه من خطاياهم. أدرك يوسف أنّ الحلم حقيقة. هذا شأن من يعيش بانتباه دائم إلى ما هو إلهي. فضيلة أخرى يتحلّى بها يوسف، ونحن كلّنا بحاجة إليها، هي القدرة على التمييز بين مجرّد حلم أو رسول الله إليه الذي أتى بالحقيقة وكلّمه. تجتاز حياتنا مصاعب ومعاكسات وتناقضات تقتضي منّا اتّخاذ قرار. مثل يوسف يعلّمنا أن نحسن قراءة علامات الأزمنة، أن ننظر إلى الأمور بعمق، ألّا نتصرّف بردّات فعل سريعة، بل أن نستلهم الله ونلتمس أنوار الروح القدس، لاتّخاذ القرار، ولو كان صعباً ومخالفاً ربّما لرغباتنا ومشاريعنا وإرادتنا. فالقرارات الكبيرة هي التي نتّخذها باستلهام إرادة الله علينا، وأنوار الروح القدس الذي يقودنا بمشورته ومخافة الله إلى اتّخاذ القرار الأفضل، وأمام أعيننا خير الإنسان والخير العام
ما كشفه الملاك ليوسف في الحلم كان صعباً، ويقتضي إيماناً شجاعاً خارقاً: "يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأنّ المولود منها هو من الروح القدس" (متى1: 20). سمّاه "ابن داود" لتذكيره أنه من سلالة داود الملوكية، وبالتالي يدعوه ليكفل أمانة الله لوعوده. ففي بيت يوسف يولد الملك الإلهي الموعود يسوع المسيح
إنّنا نصلّي من أجل أن يتحلّى المسؤولون السياسيون عندنا بموهبة التمييز، لكي يحسنوا التمييز بين الخير العام الذي من أجله يتولّون العمل السياسي والسلطة العامة وبين مصالحهم الشخصية والفئوية التي غالباً ما تكون على حساب الصالح العام وبخاصّة لكي يحسنوا التمييز بين العدل والظلم الموضوعيين؛ بين ما هو خير وما هو شرّ؛ بين القرار الحرّ والقرار المرتهن. لكنّهم لا يستطيعون هذا التمييز ما لم يستنيروا بكلام الله وإلهامات الروح القدس، فموهبة التمييز هي من عطايا الروح
إنّ سياسة النأي بالنفس، التي دعا إليها فخامة رئيس الجمهورية والتزم بها الحكم اللّبناني، بالنسبة إلى الأحداث الجارية في العالم العربي، ولا سيّما في سوريا، وإلى المحاور الإقليميّة والدولية، إنّما هي سياسة حياد لبنان الإيجابي، وتعني التزام لبنان، حكماً وشعباً ومؤسّسات، بقضايا السلام والعدالة والعيش معاً وإنماء الإنسان والمجتمع وترقّي الشعوب، وحلّ الأزمات القائمة بالحوار والتشاور والوفاق وبالحلول السياسية والديبلوماسية، لا بالعنف والحرب والإرهاب. وسياسة النأي بالنفس تعني احترام سيادة الأوطان الأخرى، وعدم التدخّل بشؤونها الداخلية بمساندة فريق دون آخر. فشعب كلّ بلد يعرف ما هو بحاجة إليه. وإن كان لا بدّ من مدّ يد المساعدة والوساطة، وهذا واجب، فليكن من أجل الحلول العادلة والمنصفة للجميع بالطرق السلميّة؛ ومن استقبال النازحين والمتضرّرين ومساعدتهم على كلّ صعيد، كما نحن فاعلون
عندما يلتزم لبنان بهذا المفهوم من سياسة النأي بالنفس، يكون وفيّاً للميثاق الوطني وملتزماً بروحه ومبادئه، وقد أخذ على نفسه، بمسيحيّيه ومسلميه، ألّا يكون لا مقرّاً ولا ممرّاً لسلاح أو تدخّل تجاه أي بلد من الشرق أو من الغرب
ولذلك نقول من المعيب حقّاً، بل ومن الظلم بحقّ لبنان وشعبه ومؤسّساته الدستورية، أن يعلّق الأفرقاء السياسيون في لبنان حلّ القضايا الوطنية الأساسية، مثل سنّ قانون جديد للانتخابات غير قانون الستين، وتأليف حكومة جديدة، وإجراء الانتخابات النيابية في موعدها القانوني، واتخاذ الإجراءات اللّازمة للنهوض الاقتصادي والمعيشي، مراهنين على ما ستؤول إليه الأحداث الجارية في سوريا أو في سواها. هذا أمرٌ مرفوض ولا يمكن القبول به، لأنّه لا يأتي للبنان إلّا بالشرّ والمزيد من المحن والأزمات والانقسامات
فيا ربّ، أعطنا جميعاً موهبة التمييز على مثال يوسف البتول، لكي نحسن تمييز صوتك من صوت العالم، والشجاعة والطاعة لما تقول لنا ويلهمنا إيّاه روحك القدّوس، وكبر النفس في التخلّي عن مشاريعنا الخاصّة وتبنّي تصميم إرادتك، فتكون حياتنا أنشودة شكر وتسبيح للآب والابن والروح القدس، آمين
إنّنا نرحّب بكم جميعاً، وقد أتيتُم من مختلف المناطق، في هذا الأحد قبل الأخير السابق لعيد ميلاد الربّ يسوع. يندرج مجيئكم في مسيرة الشعوب والأجيال نحو المسيح، محطّ انتظاراتها ومحور التاريخ، ورفيق الدرب لكلّ إنسان وجماعة. إنّه عمانوئيل "إلهنا معنا" الذي يقول لكم، كما قال ليوسف ولمريم ولزكريا: "لا تخف، لا تخافوا"
يسعدنا أن نحيّي بنوع خاصّ رؤساء البلديات والمخاتير ومجالسهم الآتين من المتن، وعلى رأسهم سعادة القائمقام الآنسة مارلين حداد، وأشكرهم على تقديم الموزاييك التذكارية للقاء الشركة مع قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، الموضوعة بالقرب من هذه الكابلة. كما نحيّي سعادة السفير الجديد لدى الأرجنتين السيد انطونيو عنداري مع عائلته، متمنّين له النجاح في مهمّته الديبلوماسية، وفي جمع شمل اللّبنانيين المنتشرين في الأرجنتين، هو الذي اعتاد على هذا العمل كعضو فاعل في المؤسسة المارونية للانتشار. كما نرحّب أيضاً بنادي شبيبة مزياره مع السيد سليم دنيا، معرباً لهم عن امتناني وشكري لتقديم درع النادي المذهّب والنفيس، وقد كتبوا عليه جملة تتلاءم مع موضوع هذا الأحد: "لا تخف، أنت مختار من الروح القدس"
ونرحّب بكاهن رعية بسوس ومجموعة موسيقاها التي نلتقيها في زياراتنا الراعوية ونقدّر عطاءاتها. وأحيّي بالأسى والرجاء عائلة فقيد بلدتهم المرحوم الشهيد بيار شفيق الفغالي الذي نذكره معكم في هذه الذبيحة المقدّسة. فتحيّة عزاء وتضامن لعائلته الحاضرة معنا ولجميع أنسبائه وأهل بسوس العزيزة. إنّنا إذ نصلّي لراحة نفس العزيز بيار ولعزاء أسرته، ندين بشدّة اغتياله بوحشية على يد من سبق ومدّه بالمساعدة وزمرة من الأشرار، الذين سلخوه عن زوجته وأولاده الأربعة وهو في الحادية والخمسين من العمر". فنطالب القضاء اللبناني كشف المجرمين القتلة وإنزال أشدّ العقوبات بهم، لقاء شرّهم الكبير، وتجنيباً للمجتمع من شرورهم وشرور أمثالهم. لكنّنا نقول لهؤلاء أنّ الربّ الإله، السيد الوحيد للحياة والموت، يقضّ مضجعهم ويعذّب ضميرهم الذي لا يمكن أن يموت فيهم، ولو مات يوم قتلوا بيار، لأنّه صوت الله في داخل كلّ إنسان. يطالبهم وكلَّ من يمدّ يد القتل على أخيه الإنسان، في أيّ حال أوظرف أو سبب، كما طالب قايين قاتل أخيه هابيل: "أين أخوك؟ ماذا فعلت به؟ إنّ صوت دماء أخيك يصرخ إليّ من الأرض. والآن فملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دماء أخيك من يدك" (تك4: 9-11). ولا يمكن أن يتناسى إنسان وصيّة الله الآمرة: "لا تقتل
لكنّني أؤكّد لكم، يا أسرته العزيزة، أنّ الله يقول لكم: "لا تخافوا! أنا معكم ورفيق دربكم وحزنكم ومستقبلكم. لا تخافوا، بل تعزّوا، فشهيدكم بيار ينعم بمجد السماء ويشفع بكم". إنّ المسيح ابن الله، الذي نسير نحو ذكرى ميلاده، هو المخلّص والفادي الذي مات على الصليب وافتدانا، وبقيامته رفعنا إلى الحياة الجديدة. إنّه ينير ظلمة الحزن وأحداث حياتنا. فلا بدّ من قراءتها على ضوء صليبه وكلمته
هو الملاك أمام تصميم الله الكبير، وصغر حجم الإنسان وضعفه، يقول ليوسف: "لا تخف" أن تدخل في تصميم الله الذي ينكشف لك في أحداث حياتك وظروفك، وأن تلتمس إرادته وأنوارها. ولكلّ واحد منّا يقول: لا تخف أن تقول الحقيقة، أن تصنع الخير بسخاء لكلّ محتاج، أن تقف إلى جانب العدالة والإنصاف، أن تستحضر الله قبل القيام بأيّ عمل، لكي لا يكون مسيئاً له أو لأي إنسان، أن تقول "لا" للشرّ. لا تخف، وأنت مسؤول في العائلة أو الكنيسة أو المجتمع أو الدولة، أن تخرج من مصالحك الخاصّة ومن المصالح الفئوية والانقسام والعداوة، وأن تلتزم الخير العام في كلّ ما هو حقّ وعدل
ما جرى ليوسف يجري مع كلّ إنسان. الله يخاطب نفوسنا وقلوبنا بكلامه مباشرة في الكتب المقدّسة، وبتعليم الكنيسة. يخاطبنا بصوته في داخلنا من خلال الضمير. يخاطبنا بإلهامات روحه القدّوس. وعندما يخاطبنا، يكشف لنا عن إرادته وعن دورنا في تصميمه الخلاصي، ويوجّه مشاريع حياتنا في اتّجاه إرادته وتصميمه، يغيّر فيها بعض الشيء ويرفعها إلى مستوى أرفع. فلنفكّر كيف ثبّت زواج يوسف ومريم، وجعله زواجاً بتوليّاً وُلد منه ابن الله في الجسد البشري بقوّة الروح القدس. فكرّس الزوجان يوسف ومريم الأبوّة والأمومة، القلب والفكر والجسد وكلّ الحبّ البتولي، لابن الله المولود في بيتهما، ولعمل الخلاص والفداء كشريكين مخلصين، فدخلا بطاعة وحبّ في عمق تصميم الله وخطّ إرادته
إنّنا نلتمس نعمة التمييز التي تحلّى بها يوسف. فأمام حيرته من حبل مريم ومن معنى وجوده كزوج ومن دوره في هذا السرّ الإلهي الذي يعلو إدراكه، وأمام القرار الذي اتّخذه بتطليق مريم سرّاً، لأنّه رجل بارّ، ظهر له الملاك في الحلم، وكشف له حقيقة سرّ حبل مريم، ودوره كزوج شرعي لها، وأبٍ مربّ ليسوع، الإله الذي يخلّص شعبه من خطاياهم. أدرك يوسف أنّ الحلم حقيقة. هذا شأن من يعيش بانتباه دائم إلى ما هو إلهي. فضيلة أخرى يتحلّى بها يوسف، ونحن كلّنا بحاجة إليها، هي القدرة على التمييز بين مجرّد حلم أو رسول الله إليه الذي أتى بالحقيقة وكلّمه. تجتاز حياتنا مصاعب ومعاكسات وتناقضات تقتضي منّا اتّخاذ قرار. مثل يوسف يعلّمنا أن نحسن قراءة علامات الأزمنة، أن ننظر إلى الأمور بعمق، ألّا نتصرّف بردّات فعل سريعة، بل أن نستلهم الله ونلتمس أنوار الروح القدس، لاتّخاذ القرار، ولو كان صعباً ومخالفاً ربّما لرغباتنا ومشاريعنا وإرادتنا. فالقرارات الكبيرة هي التي نتّخذها باستلهام إرادة الله علينا، وأنوار الروح القدس الذي يقودنا بمشورته ومخافة الله إلى اتّخاذ القرار الأفضل، وأمام أعيننا خير الإنسان والخير العام
ما كشفه الملاك ليوسف في الحلم كان صعباً، ويقتضي إيماناً شجاعاً خارقاً: "يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأنّ المولود منها هو من الروح القدس" (متى1: 20). سمّاه "ابن داود" لتذكيره أنه من سلالة داود الملوكية، وبالتالي يدعوه ليكفل أمانة الله لوعوده. ففي بيت يوسف يولد الملك الإلهي الموعود يسوع المسيح
إنّنا نصلّي من أجل أن يتحلّى المسؤولون السياسيون عندنا بموهبة التمييز، لكي يحسنوا التمييز بين الخير العام الذي من أجله يتولّون العمل السياسي والسلطة العامة وبين مصالحهم الشخصية والفئوية التي غالباً ما تكون على حساب الصالح العام وبخاصّة لكي يحسنوا التمييز بين العدل والظلم الموضوعيين؛ بين ما هو خير وما هو شرّ؛ بين القرار الحرّ والقرار المرتهن. لكنّهم لا يستطيعون هذا التمييز ما لم يستنيروا بكلام الله وإلهامات الروح القدس، فموهبة التمييز هي من عطايا الروح
إنّ سياسة النأي بالنفس، التي دعا إليها فخامة رئيس الجمهورية والتزم بها الحكم اللّبناني، بالنسبة إلى الأحداث الجارية في العالم العربي، ولا سيّما في سوريا، وإلى المحاور الإقليميّة والدولية، إنّما هي سياسة حياد لبنان الإيجابي، وتعني التزام لبنان، حكماً وشعباً ومؤسّسات، بقضايا السلام والعدالة والعيش معاً وإنماء الإنسان والمجتمع وترقّي الشعوب، وحلّ الأزمات القائمة بالحوار والتشاور والوفاق وبالحلول السياسية والديبلوماسية، لا بالعنف والحرب والإرهاب. وسياسة النأي بالنفس تعني احترام سيادة الأوطان الأخرى، وعدم التدخّل بشؤونها الداخلية بمساندة فريق دون آخر. فشعب كلّ بلد يعرف ما هو بحاجة إليه. وإن كان لا بدّ من مدّ يد المساعدة والوساطة، وهذا واجب، فليكن من أجل الحلول العادلة والمنصفة للجميع بالطرق السلميّة؛ ومن استقبال النازحين والمتضرّرين ومساعدتهم على كلّ صعيد، كما نحن فاعلون
عندما يلتزم لبنان بهذا المفهوم من سياسة النأي بالنفس، يكون وفيّاً للميثاق الوطني وملتزماً بروحه ومبادئه، وقد أخذ على نفسه، بمسيحيّيه ومسلميه، ألّا يكون لا مقرّاً ولا ممرّاً لسلاح أو تدخّل تجاه أي بلد من الشرق أو من الغرب
ولذلك نقول من المعيب حقّاً، بل ومن الظلم بحقّ لبنان وشعبه ومؤسّساته الدستورية، أن يعلّق الأفرقاء السياسيون في لبنان حلّ القضايا الوطنية الأساسية، مثل سنّ قانون جديد للانتخابات غير قانون الستين، وتأليف حكومة جديدة، وإجراء الانتخابات النيابية في موعدها القانوني، واتخاذ الإجراءات اللّازمة للنهوض الاقتصادي والمعيشي، مراهنين على ما ستؤول إليه الأحداث الجارية في سوريا أو في سواها. هذا أمرٌ مرفوض ولا يمكن القبول به، لأنّه لا يأتي للبنان إلّا بالشرّ والمزيد من المحن والأزمات والانقسامات
فيا ربّ، أعطنا جميعاً موهبة التمييز على مثال يوسف البتول، لكي نحسن تمييز صوتك من صوت العالم، والشجاعة والطاعة لما تقول لنا ويلهمنا إيّاه روحك القدّوس، وكبر النفس في التخلّي عن مشاريعنا الخاصّة وتبنّي تصميم إرادتك، فتكون حياتنا أنشودة شكر وتسبيح للآب والابن والروح القدس، آمين