الشاب الذي هرب عريانًا (مرقس 14: 51-52
مقدِّمة
لقد لاقى البحث عن هويَّة الشَّاب تفسيرات متباينة، فمنهم من أعطاه تفسيرًا تاريخيَّاً ومنهم من قدَّم تفسيراً مستوحى من العهد القديم، ومنهم من أطلَق تفسيراً رمزيَّاً؛ هذه المقاربات الثلاث سأقدِّمها في هذا البحث
التَّفسير التاريخي
تكتَّم فيه الإنجيلي عمداً عن التَّصريح باسم بطل المشهد، فالبعض قال أنَّه يوحنَّا الحبيب، أو يعقوب أخو الرَّب إستناداً إلى أحد الكتب المنحولة، والبعض بشخصيَّة لعازر إذ الجتسمانيَّة تقع على الطَّريق التي تصل بيت عنيا بأورشليم، وهو بدوره يبقى مدينًا ليسوع، إذ أعاد إليه الحياة؛ هذه المحاولة لا تخلو من الأهميَّة لكنها تبقى هشَّة، لكن الأسماء المطروحة هي: يوحنَّا، يعقوب، بطرس، بولس، مرقس
التَّفكير على ضوء العهد القديم
تكمن الفكرة حول موضوع " يوم الرَّب "،من خلال موازاة (عا2: 16) مع هذا النَّص، إذ يسوع ذاته يضع حدث إلقاء القبض عليه على خلفيَّة تتميم الكتب، فيصبح مقطع الشَّاب الهارب علامة يوم الرَّب، الذي سيبلغ ملأَهُ في السِّر الفِصْحِيّ، وهي أيضًا استدعاء لرواية يوسف (تك 39: 12) الذي فضَّل البقاء على الأمانة لربِّه، فترك ثوبه بيد امرأة سيِّده وفرَّ هاربًا، كذلك يربط بعضهم النَّص مع (دا 12)، فالرجل اللآبس الكتَّان (آ6) المنبيء بالأحداث النهيويَّة يستدعي الشَّاب المؤتزر بالكتَّان والسَّاعي جاهداً لمرافقة يسوع في ساعته النهيويَّة رغم محاولته الفاشلة
التَّفسير الرمزي
له ثلاثة اتجاهات: أ- الرمزيَّة العماديَّة. ب- الرمزيَّة المسيحانيَّة. ج- مقتضيات إتِّباع يسوع
أ-الرَّمزيَّة العماديَّة: يُلمِّح إلى عريّ الذي يطلب العماد وتغطيسه في ماء المعموديَّة، علامة إشراكه في موت المسيح. ب-الرَّمزيَّة المسيحانيَّة: يُرى بالشَّاب وهربه عريانًا، استباقاً لقيامة المسيح الذي فرَّ من قبضة الموت تاركًا اللَّفائف في القبر؛ لكن لا بد في هذه الحالة من تحليل للمفردات.
تبعه: يعكس حالة قرب ومودَّة لا ينعم بها الجميع على السَّواء
َ شابّ: لا نعرف عمره، لكنه بعمر اختيار الحياة والملامح الرئيسيَّة الإنسانيَّة
لابسًا: بمعنى التفَّ
إزار: يدل على انَّه مشلح باهظ الثمن، لا يمكن اقتناؤه إلاَّ من النُّبلاء ويُستخدم كثوب ليلي أو ككفن؛ وقد استعملت أربع مرَّات، مرتين إلى الشَّاب ومرتين إلى يسوع عن الصليب
فأمسكوه: غالبًا ما تعني أوقف أو اعتقل، أو احتفاظ بالشيء
غير أنَّه تخلَّى عن الإزار: تدل على تغيير الاتجاه داخل الفقرة؛ فقد أُلقي القبض على الشَّاب الذي كان يتبع يسوع
هرب: يُسند ثلاث مرَّات إلى أشخاص تعهَّدوا على أنفسهم بالسير وراء المسيح، فالشَّاب كان قد تبع يسوع في حين ان التلاميذ كلهم قد تركوه وهربوا
عريانًا: إن الجدل حول استعمال الكلمة يقوم على تحديد ما إذا كان العري كاملاً أم جزئيًا، فغياب اللِّباس أو العري هو غياب الهويَّة، ويطبَّق هذا المفهوم على السجناء والعبيد، أو في حالات العهر والخلل العقلي، والتجديف، واللعنة
نجد بعض العناصر المشتركة بين الشَّاب ويسوع، إذ تجعل من الشَّاب تجسيدًا مسبقًا للمصير الذي سيتورَّط فيه يسوع غداة اعتقاله، فالفعل "أمسك، ألقى القبض، اعتقل" يوحِّد مصير الشَّاب ويسوع، حيث يستعمل للإشارة إلى اعتقال يسوع، ويطبَّق على الشاب الذي تبع يسوع مع الفرق أنه لاذ بالفرار رافضًا أن يشارك يسوع حتَّى النهاية، في حين استسلم يسوع للموت مصلوبًا؛ كذلك الإزار يوطِّد العلاقة بين الشَّاب ويسوع؛ ففي رواية دفن يسوع، وبينما يدل ترك الشَّاب لإزاره هي نهاية إقتفاء خطى يسوع والسير بأمانة وراءه، تبقى عملية لف جسد يسوع بالكتَّان آخر عمل رضي أن يتقاسمه مع أي إنسان، وعندما سيترك يسوع الكتَّان ويهرب من قبضة الموت بعد ثلاثة ايَّام؛ فهذه العناصر تدعونا لإبراز أمانة المعلِّم للرسالة المؤتمن عليها، والتي ستبلغ أقصاها في التَّعري على الصليب
ج- مقتضيات إتِّباع المسيح: يعكس هرب الشَّاب آن توقيف يسوع تصرُّف الإثني عشر الذين تركوه، إذ يبدو التلاميذ مستعدِّين لترك كلِّ شيء في سبيل المعلِّم، ووقت إلقاء القبض عليه تركوه وأدبروا هاربين، كذلك ترك الشَّاب كل شيء ليولِّي بعيدًا عن يسوع؛ لكن من هو هذا الشخص المعني؟
نجد أن الشَّاب يتبع يسوع عن قرب كما الإثني عشر، ويدل على إتِّباع المعلِّم عن كثب، وإذا كان دخول الشَّاب يتزامن مع آونة تلي مباشرة إعتقاله فهي تشكِّل المثال في الأمانة لكل من سار على خطى يسوع؛ غير أن صورة الشَّاب تعكس في الوقت عينه الموازاة والتناقض بالنسبة إلى الإثني عشر، مبيِّنة حالة التوتُّر الذي تعرَّض له التلاميذ طيلة رسالة يسوع العلنيَّة، إذ إنهم كلّهم تركوا يسوع فحل " الهرب" مكان " السير وراء"؛ وإن مشهد الشَّاب الذي لم يرافق يسوع حتَّى النهاية قد يشير إلى تسبيق" سقوط" بطرس الذي طالما ظهر لدى مرقس وكأنه المتكلِّم باسم جماعة الإثنَي عشر، إذ يقع على ملتقى التلمذة ليسوع والإخفاق الذي ستواجهه جماعة التلاميذ بتسليطنا الضوء على شاب يتخلَّى عن إزاره؛ فالعري بالنِّسبة للتلميذ المرتبط بالسّير وراء يسوع له معنيين؛ الأوَّل إيجابي والثاني سلبي، في الحالة الأولى يُفهم العري وكأنه جهوزيَّة التَّجرُّد عن الذَّات للانخراط في التلمذة، والثانية فتحمل خبرة الإخفاق وعدم الفهم؛ فبالمعنى الإيجابي؛ يعطي إنجيل مرقس أهميَّة خاصَّة لموضوع "الاكتساء" في روايته للسر الفصحي، لكن الإنجيلي يتعمَّد إبلاغ فكرة لاهوتيَّة ستعود وتسطع في مقطع الشاب الهارب الذي تخلَّى عن كسائه الثَّمين ليثب عريانًا؛ لكن لا بد من ذكر بعض المراجع التي تم ذكر الثوب بها؛ فما يتعلَّق بأعمى اريحا؛ أن رواية مرقس تتميَّز بالتَّفْصيل المختص بالرِّداء، إذ أَلقى عنه رداءه ووثب وجاء إلى يسوع، وأن رداء الفقير هو كساء ذو أهميَّة، والشريعة نفسها لم تكن تتغاضى عن حق الفقير بالكساء؛ وفي إطار دخول يسوع المسيحاني إلى أورشليم نجد تصرفاً مماثلاً للتِّلميذَين الَّذَين نزعا رداءَيهِما عنهما ووضاعهما على الجحش الذي سيركبه يسوع؛ كذلك في " الأيَّام الأخيرة" الكل مدعو إلى الاَّ يرتد إلى الوراء لأخذ ردائه؛فيجب التخلِّي عن كل ما يدل على الملجأ أو الغنى
أمَّا بالنسبة للمعنى السلبي؛ غالبًا ما يأخذ العري معنى سلبيًا بالكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد، فخسارة الثياب تتعلَّق مباشرة بخسارة الهويَّة" فانفتحت أعينهما فعرفا أنهما عريانان"(تك3: 7)، لكن الله سيتوجَّه من جديد نحو الإنسان ليصنع له اقمصة من جلد ويلبسه، وبهذا سيصون له كرامته التي خسرها بسبب الخطيئة؛ وفي (تك37) القميص الموشى يعبِّر عن المحبَّة الخاصة التي يكنّها يعقوب لابنه يوسف الذي كان موضوع غيرة من قبل إخوته، فشرعوا أولاً بنزع قميصه عنه، آنئذ أصبح بإمكانهم أن يطرحوه في البئر ليبيعوه كعبدٍ، إذ إن هويته قد نزعت عنه؛ وفي (حز 16) إذ لم يتسنَّى لإسرائيل أن تتبلور هويتها إلاَّ بمرور الرَّب بقربها، وبسط ذيل ردائه عليها وستر عورتها، أمَّا في ( رؤيا 3 :17؛ 16 :15): في العهد الجديد تُظهر (رؤ 3: 17) رداءة حالة كنيسة اللآذقيَّة، مما يحمل الشَّاهد الأَمين الصَّادق على أن يشيرَ عليها بأن تقتنيَ منهُ الثِّيَاب البيض لتلبسها، رمز هويتها المسيحيَّة الحقيقيَّة، أمَّا (رؤ 16 :15) فتوّجه الدَّعوة إلى الإنسان" ليسهر ويحفظ ثيابه لئلّا يسير عريانًا فتُرى عورته"، فالعري هو حالة تشقق الذَّات وضياع الهويَّة وتجريد داخلي وإذلال وزوال الحظوة
خاتمة
من جهة التلاميذ؛ الخبرة الحرجة ستحملهم على أن يكونوا مثل معلّمهم، إذ عليهم أن يضعوا جهوزيتهم للإقتداء بيسوع على محك الإختبار لأنهم سيضطرون الى التَّعري عن كل أنواع السَّلام، فهذا النَّص هو بمثابة تسبيق لآلامه وموته من خلال ما يشير اليه التّعري التّام الذي يعرض لهم إخلاء المسيح الكامل لذاته على الصَّليب؛ أمَّا في ما يخص يسوع، فالعري ضروري في سبيل تتميم مشيئة الآب وتدشين ملكوته في العالم؛ فعلى كل مسيحي أن يختار بين موقفي الشاب أي إيصال مسيرته الإيمانية فقط إلى أفق (مر 14: 51-52) أو بتخطّيها إلى مستوى أفق مرقس(16: 5-7
رأي شخصي
لقد وجدتُ في هذا النَّص فوائد جمَّة حول طريقة البحث عن الجواب، من خلال استخدام شتَّى الطُّرق والوسائل، من تحليل تاريخيّ وتحليل لنصوص العهد القديم، وتفسير رمزيّ شيِّق ممَّا يُشعِلُ حشريَّة القاريء في البحث والتدقيق حتَّى في أدق التَّفاصيل، بالإضافة إلى التَّعابير واستخدام اللغة العبريَّة واليونانيَّة، علَّنا نصل إلى جواب يشفي لظى غليلنا؛ لكن للأسف! إذ طالما العمل الحثيث يزداد لمحاولة إصابة صاحب هذه الشخصيَّة، نجد أن الاحتمالات تزداد؛ فنصل بمعرفتنا بالكتاب المقدَّس بأنه بئر من الأسرار لا قرار له، فمعرفتي بالكتاب المقدَّس، هي بأن أُطأطيء رأسي وأجرح مقلتيَّ بسره بعد أن كانت غايتي معرفة شخصية هذا الهارب
لقد لاقى البحث عن هويَّة الشَّاب تفسيرات متباينة، فمنهم من أعطاه تفسيرًا تاريخيَّاً ومنهم من قدَّم تفسيراً مستوحى من العهد القديم، ومنهم من أطلَق تفسيراً رمزيَّاً؛ هذه المقاربات الثلاث سأقدِّمها في هذا البحث
التَّفسير التاريخي
تكتَّم فيه الإنجيلي عمداً عن التَّصريح باسم بطل المشهد، فالبعض قال أنَّه يوحنَّا الحبيب، أو يعقوب أخو الرَّب إستناداً إلى أحد الكتب المنحولة، والبعض بشخصيَّة لعازر إذ الجتسمانيَّة تقع على الطَّريق التي تصل بيت عنيا بأورشليم، وهو بدوره يبقى مدينًا ليسوع، إذ أعاد إليه الحياة؛ هذه المحاولة لا تخلو من الأهميَّة لكنها تبقى هشَّة، لكن الأسماء المطروحة هي: يوحنَّا، يعقوب، بطرس، بولس، مرقس
التَّفكير على ضوء العهد القديم
تكمن الفكرة حول موضوع " يوم الرَّب "،من خلال موازاة (عا2: 16) مع هذا النَّص، إذ يسوع ذاته يضع حدث إلقاء القبض عليه على خلفيَّة تتميم الكتب، فيصبح مقطع الشَّاب الهارب علامة يوم الرَّب، الذي سيبلغ ملأَهُ في السِّر الفِصْحِيّ، وهي أيضًا استدعاء لرواية يوسف (تك 39: 12) الذي فضَّل البقاء على الأمانة لربِّه، فترك ثوبه بيد امرأة سيِّده وفرَّ هاربًا، كذلك يربط بعضهم النَّص مع (دا 12)، فالرجل اللآبس الكتَّان (آ6) المنبيء بالأحداث النهيويَّة يستدعي الشَّاب المؤتزر بالكتَّان والسَّاعي جاهداً لمرافقة يسوع في ساعته النهيويَّة رغم محاولته الفاشلة
التَّفسير الرمزي
له ثلاثة اتجاهات: أ- الرمزيَّة العماديَّة. ب- الرمزيَّة المسيحانيَّة. ج- مقتضيات إتِّباع يسوع
أ-الرَّمزيَّة العماديَّة: يُلمِّح إلى عريّ الذي يطلب العماد وتغطيسه في ماء المعموديَّة، علامة إشراكه في موت المسيح. ب-الرَّمزيَّة المسيحانيَّة: يُرى بالشَّاب وهربه عريانًا، استباقاً لقيامة المسيح الذي فرَّ من قبضة الموت تاركًا اللَّفائف في القبر؛ لكن لا بد في هذه الحالة من تحليل للمفردات.
تبعه: يعكس حالة قرب ومودَّة لا ينعم بها الجميع على السَّواء
َ شابّ: لا نعرف عمره، لكنه بعمر اختيار الحياة والملامح الرئيسيَّة الإنسانيَّة
لابسًا: بمعنى التفَّ
إزار: يدل على انَّه مشلح باهظ الثمن، لا يمكن اقتناؤه إلاَّ من النُّبلاء ويُستخدم كثوب ليلي أو ككفن؛ وقد استعملت أربع مرَّات، مرتين إلى الشَّاب ومرتين إلى يسوع عن الصليب
فأمسكوه: غالبًا ما تعني أوقف أو اعتقل، أو احتفاظ بالشيء
غير أنَّه تخلَّى عن الإزار: تدل على تغيير الاتجاه داخل الفقرة؛ فقد أُلقي القبض على الشَّاب الذي كان يتبع يسوع
هرب: يُسند ثلاث مرَّات إلى أشخاص تعهَّدوا على أنفسهم بالسير وراء المسيح، فالشَّاب كان قد تبع يسوع في حين ان التلاميذ كلهم قد تركوه وهربوا
عريانًا: إن الجدل حول استعمال الكلمة يقوم على تحديد ما إذا كان العري كاملاً أم جزئيًا، فغياب اللِّباس أو العري هو غياب الهويَّة، ويطبَّق هذا المفهوم على السجناء والعبيد، أو في حالات العهر والخلل العقلي، والتجديف، واللعنة
نجد بعض العناصر المشتركة بين الشَّاب ويسوع، إذ تجعل من الشَّاب تجسيدًا مسبقًا للمصير الذي سيتورَّط فيه يسوع غداة اعتقاله، فالفعل "أمسك، ألقى القبض، اعتقل" يوحِّد مصير الشَّاب ويسوع، حيث يستعمل للإشارة إلى اعتقال يسوع، ويطبَّق على الشاب الذي تبع يسوع مع الفرق أنه لاذ بالفرار رافضًا أن يشارك يسوع حتَّى النهاية، في حين استسلم يسوع للموت مصلوبًا؛ كذلك الإزار يوطِّد العلاقة بين الشَّاب ويسوع؛ ففي رواية دفن يسوع، وبينما يدل ترك الشَّاب لإزاره هي نهاية إقتفاء خطى يسوع والسير بأمانة وراءه، تبقى عملية لف جسد يسوع بالكتَّان آخر عمل رضي أن يتقاسمه مع أي إنسان، وعندما سيترك يسوع الكتَّان ويهرب من قبضة الموت بعد ثلاثة ايَّام؛ فهذه العناصر تدعونا لإبراز أمانة المعلِّم للرسالة المؤتمن عليها، والتي ستبلغ أقصاها في التَّعري على الصليب
ج- مقتضيات إتِّباع المسيح: يعكس هرب الشَّاب آن توقيف يسوع تصرُّف الإثني عشر الذين تركوه، إذ يبدو التلاميذ مستعدِّين لترك كلِّ شيء في سبيل المعلِّم، ووقت إلقاء القبض عليه تركوه وأدبروا هاربين، كذلك ترك الشَّاب كل شيء ليولِّي بعيدًا عن يسوع؛ لكن من هو هذا الشخص المعني؟
نجد أن الشَّاب يتبع يسوع عن قرب كما الإثني عشر، ويدل على إتِّباع المعلِّم عن كثب، وإذا كان دخول الشَّاب يتزامن مع آونة تلي مباشرة إعتقاله فهي تشكِّل المثال في الأمانة لكل من سار على خطى يسوع؛ غير أن صورة الشَّاب تعكس في الوقت عينه الموازاة والتناقض بالنسبة إلى الإثني عشر، مبيِّنة حالة التوتُّر الذي تعرَّض له التلاميذ طيلة رسالة يسوع العلنيَّة، إذ إنهم كلّهم تركوا يسوع فحل " الهرب" مكان " السير وراء"؛ وإن مشهد الشَّاب الذي لم يرافق يسوع حتَّى النهاية قد يشير إلى تسبيق" سقوط" بطرس الذي طالما ظهر لدى مرقس وكأنه المتكلِّم باسم جماعة الإثنَي عشر، إذ يقع على ملتقى التلمذة ليسوع والإخفاق الذي ستواجهه جماعة التلاميذ بتسليطنا الضوء على شاب يتخلَّى عن إزاره؛ فالعري بالنِّسبة للتلميذ المرتبط بالسّير وراء يسوع له معنيين؛ الأوَّل إيجابي والثاني سلبي، في الحالة الأولى يُفهم العري وكأنه جهوزيَّة التَّجرُّد عن الذَّات للانخراط في التلمذة، والثانية فتحمل خبرة الإخفاق وعدم الفهم؛ فبالمعنى الإيجابي؛ يعطي إنجيل مرقس أهميَّة خاصَّة لموضوع "الاكتساء" في روايته للسر الفصحي، لكن الإنجيلي يتعمَّد إبلاغ فكرة لاهوتيَّة ستعود وتسطع في مقطع الشاب الهارب الذي تخلَّى عن كسائه الثَّمين ليثب عريانًا؛ لكن لا بد من ذكر بعض المراجع التي تم ذكر الثوب بها؛ فما يتعلَّق بأعمى اريحا؛ أن رواية مرقس تتميَّز بالتَّفْصيل المختص بالرِّداء، إذ أَلقى عنه رداءه ووثب وجاء إلى يسوع، وأن رداء الفقير هو كساء ذو أهميَّة، والشريعة نفسها لم تكن تتغاضى عن حق الفقير بالكساء؛ وفي إطار دخول يسوع المسيحاني إلى أورشليم نجد تصرفاً مماثلاً للتِّلميذَين الَّذَين نزعا رداءَيهِما عنهما ووضاعهما على الجحش الذي سيركبه يسوع؛ كذلك في " الأيَّام الأخيرة" الكل مدعو إلى الاَّ يرتد إلى الوراء لأخذ ردائه؛فيجب التخلِّي عن كل ما يدل على الملجأ أو الغنى
أمَّا بالنسبة للمعنى السلبي؛ غالبًا ما يأخذ العري معنى سلبيًا بالكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد، فخسارة الثياب تتعلَّق مباشرة بخسارة الهويَّة" فانفتحت أعينهما فعرفا أنهما عريانان"(تك3: 7)، لكن الله سيتوجَّه من جديد نحو الإنسان ليصنع له اقمصة من جلد ويلبسه، وبهذا سيصون له كرامته التي خسرها بسبب الخطيئة؛ وفي (تك37) القميص الموشى يعبِّر عن المحبَّة الخاصة التي يكنّها يعقوب لابنه يوسف الذي كان موضوع غيرة من قبل إخوته، فشرعوا أولاً بنزع قميصه عنه، آنئذ أصبح بإمكانهم أن يطرحوه في البئر ليبيعوه كعبدٍ، إذ إن هويته قد نزعت عنه؛ وفي (حز 16) إذ لم يتسنَّى لإسرائيل أن تتبلور هويتها إلاَّ بمرور الرَّب بقربها، وبسط ذيل ردائه عليها وستر عورتها، أمَّا في ( رؤيا 3 :17؛ 16 :15): في العهد الجديد تُظهر (رؤ 3: 17) رداءة حالة كنيسة اللآذقيَّة، مما يحمل الشَّاهد الأَمين الصَّادق على أن يشيرَ عليها بأن تقتنيَ منهُ الثِّيَاب البيض لتلبسها، رمز هويتها المسيحيَّة الحقيقيَّة، أمَّا (رؤ 16 :15) فتوّجه الدَّعوة إلى الإنسان" ليسهر ويحفظ ثيابه لئلّا يسير عريانًا فتُرى عورته"، فالعري هو حالة تشقق الذَّات وضياع الهويَّة وتجريد داخلي وإذلال وزوال الحظوة
خاتمة
من جهة التلاميذ؛ الخبرة الحرجة ستحملهم على أن يكونوا مثل معلّمهم، إذ عليهم أن يضعوا جهوزيتهم للإقتداء بيسوع على محك الإختبار لأنهم سيضطرون الى التَّعري عن كل أنواع السَّلام، فهذا النَّص هو بمثابة تسبيق لآلامه وموته من خلال ما يشير اليه التّعري التّام الذي يعرض لهم إخلاء المسيح الكامل لذاته على الصَّليب؛ أمَّا في ما يخص يسوع، فالعري ضروري في سبيل تتميم مشيئة الآب وتدشين ملكوته في العالم؛ فعلى كل مسيحي أن يختار بين موقفي الشاب أي إيصال مسيرته الإيمانية فقط إلى أفق (مر 14: 51-52) أو بتخطّيها إلى مستوى أفق مرقس(16: 5-7
رأي شخصي
لقد وجدتُ في هذا النَّص فوائد جمَّة حول طريقة البحث عن الجواب، من خلال استخدام شتَّى الطُّرق والوسائل، من تحليل تاريخيّ وتحليل لنصوص العهد القديم، وتفسير رمزيّ شيِّق ممَّا يُشعِلُ حشريَّة القاريء في البحث والتدقيق حتَّى في أدق التَّفاصيل، بالإضافة إلى التَّعابير واستخدام اللغة العبريَّة واليونانيَّة، علَّنا نصل إلى جواب يشفي لظى غليلنا؛ لكن للأسف! إذ طالما العمل الحثيث يزداد لمحاولة إصابة صاحب هذه الشخصيَّة، نجد أن الاحتمالات تزداد؛ فنصل بمعرفتنا بالكتاب المقدَّس بأنه بئر من الأسرار لا قرار له، فمعرفتي بالكتاب المقدَّس، هي بأن أُطأطيء رأسي وأجرح مقلتيَّ بسره بعد أن كانت غايتي معرفة شخصية هذا الهارب