"عندهم موسى والأنبياء، فليسمعموا لهم"
(لو16: 29)
تذكر الكنيسة في هذا الأحد وطيلةَ الأسبوع الموتى المؤمنين، وتُصلّي من أجل راحةِ نفوسِهم في الملكوت السماوي، والتّخفيفِ من عذاباتهم المطهريّة تكفيراً عمّا ارتكبوا من خطايا وشرور، وقد تابوا عنها في حياتهم، وتصالحوا مع الله قبل موتِهم. غير أنّهم استحقّوا الخلاص الأبديبفضل إيمانهم بالله والعملِ بموجب كلامه، وبفضلِ محبّتهم ومساعدتهم للإخوة المحتاجين عملاً بوصيّةِ المحبّة. مَثَلُ الغنيّ ولعازر دعوةٌ لنالنجمعَ بين الإيمان والمحبة، مُتتلمذين للمسيح، ومُلتزمين بتعليم الكنيسة. هذا هو مضمونُ الجوابِ الإلهي للغني المُعذَّب في نار الهلاك الأبدي، على لسانِ إبراهيم: "عندهم موسى والأنبياء، فليسمعوا لهم... وإن كانوا لا يسمعون لهم، فإنّهم، ولو قام واحدٌ من الأموات، لن يصدّقوا"(لو16: 29 و31). "موسى والأنبياء" هم اليوم الكنيسة المؤتمنة على التعليم الإلهيّ والمُلتزمة على نقل الحقيقة وعيش المحبة
إنّنا نرحّبُ بكم جميعاً ونُحيّيكم، ونُعزّي الحزانى من بينكم، بخاصّة الذين فقدوا أعزّاء لهم في هذه السنة، ونقدّمُ هذه الذّبيحة مع المناولة وصلاة وضع البخور لراحة نفوس موتانا وجميعِ الأنفس المطهريّة، سائلين اللهَ الغنيَّ بالرحمة، باستحقاقات آلامِ المسيح وأمِّه وأمِّنا العذراءِ مريمَ والشهداءِ والقديسينَ أن يخفِّفَ من آلامهمِ المطهريّة، ويُمتِّعَهم بالمشاهدةِ السعيدة في مجد السماء. إنّها شركةُ القِدّيسين: أي كنيسةُ الأرضِ المجاهدة تستشفعُ كنيسةَ السماء الممجَّدة، من أجلِ كنيسة المطهر المتألِّمة
إنَّ قمّةَ صلاتنا من أجلِ موتانا تقديمُ قداديس على نيّتهم، مقرونة بأعمالنا الصالحة، وتوبتنا إلى الله، وبأعمال الخير والمحبّة تجاه الفقراء والمُعوَزين والمتألِّمين. كما نضمّ إليها أصوامَنا وإماتاتِنا طيلة الصوم الكبير، الذي سنبدأُه بعد أسبوع. هذه كلُّها تُشكّل قرابينَ روحيّة، نضمُّها إلى قربانِ المسيح الفادي في ذبيحة القداس، فنستحقَّ رحمةَ الله لموتانا الذين يحتاجون إلى تشفّعنا
وإنّنا نذكر في قدّاسنا وصلواتنا كل كلَّ الضحايا البريئة التي تقع في هذه الأيام على مذبح الوطن، في لبنان وسوريا وسواهما من البلدان. ونذكر على الأخصّ شهيدَي الجيش اللبناني النقيب بيار بشعلاني والرقيب إبراهيم زهرمان اللذَين استُشهدا في بلدة عرسال البقاعيّة أوّل من أمس، وهما يقومان بواجبهما الأمني المقدّس في خدمة العدالة. إنّهما ضحيّة ما يُسمّى، بكلّ أسف، "ألأمنُ بالتراضي"، ويحمل مسؤولية استشهادهما كلُّ الجهات السياسية التي تغطّي مثل هذه الاعتداءات على الجيش والقوى العسكرية والأمنية، والعبث بأمن المواطنين وهيبة الدولة. عزاؤنا لأهلهم وللجيش اللبناني، مناشدين الدولة وضع حدٍّ نهائي لكلّ هذه الممارسات
ستتسلَّمون في الأحدِ المقبل، مدخلِ الصوم، رسالتَنا الراعوية للمناسبة وعنوانُها: "الصومُ الكبير رحلةُ عبورٍ نحو الفصح". إنّها تُوجِّه مسيرتَنا الروحية طيلةَ زمن الصوم. نُبَيّنُ فيها قيمةَ الصوم وثمارَه الروحية، وندعو للالتزام بفريضته مقرونةً بالصلاة وبأعمال المحبّة والرحمة كواجبٍ علينا من باب الضمير لأجل خلاصنا، واستعدادًا لقبول ثمار الفصح المقدّس، بموت المسيح لفدائنا، وبقيامته لتقديسنا. كما نرسم، في رسالة الصوم هذه، خطَّ "رحلة الصوم الداخليّة"، وفقاً لمحطات أسابيعه الستّة وأناجيلِ الآحاد، قبل الدخول في أسبوع الآلام المقدّس
ثمّ ندعو فيها للالتزام "بتنظيمِ خدمة المحبّة الشّخصيّة والجماعيّة"، وفقاً لتوجيهات قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في الإرادة الرسولية الصادرة في 11 تشرين الثاني الماضي وعنوانها: "طبيعةُ الكنيسة الجوهرية وخدمةُ المحبّة". هذه الدعوة موجّهة إلى الأبرشياتِ والرهبانيّات والرعايا والمنظّماتِ الخيريّة والمؤسّسات الكنسيّة. ونُنهي رسالتَنا بتوجيهاتٍ لعيشِ سنة الإيمان، التي تدعونا لاكتشافِ طريقِ الإيمان من أجل إحياءِ فرح اللّقاء بالمسيح، وإذكاءِ حرارةِ الشهادة له ولمحبّته. ونرجو أن نَعْبُرَ، بنعمةِ موت المسيح وقيامته، وباستحقاقاتِ الصوم والصلاة والصدقة، إلى حياةٍ جديدة، وأن تَعبرَ أوطانُنا المشرقيّة إلى ميناءِ السلام العادل والدائم
"عندهم موسى والأنبياء، فليسمعوا لهم". سماعُ كلام الله ومعرفةُ وصاياه يولِّد فينا الإيمان. "فالإيمانُ من السماع" يقول بولس الرسول(روم10: 17). إذا آمنّا من كلِّ قلبنا وعقلنا، جسَّدْنا إيماننا بأفعالِ محبّةٍ للناس، وبخاصّةٍ للفقراء والمحتاجين والمتألِّمين من بينهم.الإيمان والمحبة ركيزتان تقوم عليهما الحياةُ المسيحيّة، بل كلُّ حياةٍ على وجه الدنيا. ألإيمانُ نورٌ للعقل، والمحبةُ حياةٌ للقلب
الأنبياءُ علّموا كلامَ الله الذي اكتمل بيسوع المسيح كلمةِ الله، وهو النبيُّ بامتياز، لأنّه الكلمةُ والمعلّم. موسى نقل وصايا الله العشر المختصرة بوصيةٍ واحدة هي محبةُ الله ومحبةُ الإنسان. بهذه الوصية المزدوجة يرتبطُ الخلاصُ الأبدي. ذاتَ يوم "سأل عالمٌ بالتوراة يسوعَ: "ماذا أعمل لأرثَ الحياة الأبدية؟ أجابه يسوع: ماذا كُتب في التوراة؟ كيف تقرأ؟ فقال: "أحبب الربَّ إلهك من كلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ قدرتك وكلّ فكرك. وأحبب قريبك كنفسك". فقال يسوع: بالصواب أجبت. إفعل هذا فتحيا"(لو10: 25-28؛ تثنية 5: 6؛ أحبار19: 18
في سنة الإيمان التي افتتحها قداسةُ البابا بندكتوس السادس عشر في 11 تشرين الأوّل 2012 نكتسب من مَثَلِ الإنجيل أمثولةً كبرى عن معنى الإيمان وارتباطِه بالمحبة. فالإيمانُ هو معرفةُ الحقيقة الموحاةِ من الله واعتناقُها(1 طيم2: 4)؛ والمحبّةُ هي السّيرُ في الحقيقة وترجمتُها بالأفعال(أفسس4: 15). في رسالته لمناسبة الصوم الكبير 2013، يتكلّم قداسةُ البابا بندكتوس السادس عشر عن العلاقة الوطيدة بين الإيمان والمحبة. فيقول: إنّ معرفةَ الله بالإيمان هي الطريقُ إلى المحبة. عندما نقول بعقلِنا نعم لكلام الله ووصاياه ونقبلُها حقيقةً مُنيرة، ونقول لها أيضاً نعم بإرادتنا عاملين بموجبها، تصبح المعرفةُ الإيمانية مَحبّة مُعاشة. بقدر ما تزدادُ معرفتُنا الإيمانية لله ولكلامه ولتعليم الكنيسة، تزدادُ عندنا مبادراتُ المحبة. ولذلك المحبةُ تفترض الإيمان. وعندما نلتقي الله بالإيمان في شخص المسيح، تُولد فينا المحبةُ التي تفتحُ قلوبَنا على الآخر. المحبّةُ لا تُفرَضُ من الخارج، بل تنبعُ من الإيمان في داخل القلب. "المحبة تستحثّنا"، يقول بولس الرسول(2 كور5: 14). كم مجتمعُنا في لبنان ومجتمعاتُ بلدان الشرق الأوسط بحاجة إلى معرفة الحقيقة وعيشِ المحبّة، وبالتالي إلى الكنيسةِ التي تُلبّي هذه الحاجة. فلا يجوز أن تُعاشَ الحياةُ بالغوغائيّة والفوضى، من دون العودة إلى التعاليم الإلهيّة
مشكلةُ الغني أنّه لم يعرف لا الإيمان ولا والمحبة. لم يتقاسم الخيرات مع لعازر الفقيرِ المطروحِ قدّامَ بابِ بيته متضوّراً جوعاً ومضروباً بالقروح. لم يؤمن ويصدّق أنّ خيراتِ الأرض مرتّبةٌ من الله الخالق لجميع الناس، وأنّ الخيراتِ المتوفّرة بين يديه، دليلٌ على محبّةٍ من الله، لكي يكونَ هو بدورِه وسيطَ محبّته. ولهذا علَّمَتِ الكنيسةُ دائماً أنّ المُلكيّة الخاصّة ليست مطلقة ومحصورة بصاحبها، بل هي مُقيَّدة برهن اجتماعي. فلا يحقّ لأحدٍ أن يحتفظَ لنفسه ولبيتِه فقط بخيرات الله، أيّاً كان نوعُها مادّيةً أم روحيّة، معنويّة أم ثقافيّة
يُمثّلُ الغنيَّ كلُّ صاحبِ سلطةٍ في العائلة والكنيسة والمجتمع والدولة، لأنّه يمتلك قدراتٍ متنوّعة هي بحدّ ذاتها وسائلُ للمساعدة. السلطةُ السياسية تمتلك قدراتِ الدولة ومالَها العام ومرافقَها ومؤسّساتِها، وهي مسؤولةٌ عن تأمين الخير العام الذي هو مجملُ أوضاع الحياة الاجتماعية التي تستطيع السلطةُ تأمينَها بنشاطها التشريعي والإجرائي والإداري والقضائي والاقتصادي، فيتمكّنَ الأشخاصُ والجماعاتُ من تحقيق ذواتِهم تحقيقاً أفضل(شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان، ص6
إنّنا نُجدّد النداء إلى الحكومة اللبنانية لكي ترسمَ خطّةً إنقاذيّةً من أجل تحصين الاقتصاد الوطني، والنهوضِ به، بالانتقالِ من التراجع في مسار التّنميةِ إلى التقدّم المستدامِ والقادرِ على توفير فرص عملٍ جديدة للشباب، المتخرِّج سنويّاً بالمئات من الجامعات والمدارس الفنيّة والمهنيّة
وفيما نَثني على اجتماعاتِ الحكومة مع الهيئات الاقتصاديّة، آملين الأخذَ بورقةِ الإنقاذ والنهوض التي تقدّمها هذه الهيئات، فإنّنا نناشدُ، مع ذوي الإرادات الصالحة، السياسيينَ والاقتصاديينَ الفصلَ بين السياسة والاقتصاد. بحيث لا تُستعمل الأزمةُ الاقتصادية لأغراضٍ سياسيّة، ولا تُسيِّس السلطةُ السياسية العملَ الاقتصادي، بل تأتي قراراتُها بالشأن الاقتصادي منزَّهةً عن أيِّ مصلحةٍ شخصيّة وفئويّة، وعن أيِّ لونٍ سياسي يُوظَّف للإنتخابات النيابية المقبلة. بل المطلوب تأمين الخير العام، الذي منه خير الوطن وخير الجميع
إنّ إنقاذ الاقتصاد اللبناني والنهوض به وتحصينه مسؤوليّة مشتركة يتقاسمها القطاعان العام والخاصّ ومنوط بالتشركة بينهما، كما هو مسؤوليّة كلّ المواطنين والأحزاب والتكتّلات
فلا بدّ أوّلاً من تحصين الاستقرار الأمني، بإزالة بؤر السلاح غير الشرعي وجزر الأمن بالتراضي وبمنع أعمال الشغب، كقطع الطرق واحتلال مبانٍ ومرافق وأماكن عامّة، وتهديد المصالح الاقتصاديّة، لبنانيّة كانت أم أجنبية، والاضرابات المفتوحة من دون جدوى، وظاهرة الخطف من اجل طلب فدية. هذا الاستقرار الأمني والاجتماعي يوفّر الإطار الضروري لكي يأتي العمل الإقتصادي، بكلّ قطاعاته، فاعلاً ودؤوباً ومنتجاً، ولكي يجتذب الاستثمارات الخارجيّة، ويشجّع السياحة الدوليّة والعربيّة
إنَّ المسؤولين عن الشّأن الإقتصادي بكلّ قطاعاته، وعن تأمين سيره، إذا أساؤوا استعمال مسؤلياتهم، كانوا مثل الغني في الانجيل الذي مارس الظّلم والاستضعاف على لعازر الفقير المتمثّل في هذه الحالة بالجماعات اللبنانيّة المتأثرة في معيشتها وكرامتها ومصيرها من الأزمة الإقتصادية والإجتماعية والمعيشية والإنمائية. وكذلك كلُّ مَن يستعمل سلطته ونفوذه ليفتعل العنف والحرب ويمارسهما لأغراضٍ سياسيّة واقتصاديّة وسواها، ويقتل المواطنين الأبرياء ويهجّرهم ويدمّر بيوتهم، إنّما يُعيد دور الغنيّ في الإنجيل الذي كان مصيره الهلاك الأبدي
تعلّم الكنيسة أنّ لعازر الفقير صورةٌ عن يسوع المتألِّم، لعازر الحقيقي الذي نساعده عبر كلّ فقير متألِّم، وقد تماهى معه: "كنتُ جائعاً، عطشاناً، عرياناً، غريباً، مريضاً، محبوساً"(متى 25: 34-40). يسوع، "لعازر الحقيقي" تنبّأ عنه أشعيا قبل سبعماية سنة: "مزدرى ومتروك من الناس، رجلُ أوجاع وعارفٌ بالألم. ومثل من يُستر الوجهُ عنه. لقد حمل آلامنا واحتمل أوجاعنا، فحسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلَّلاً"(أشعيا 53: 3-4). ومثل لعازر المرتمي على باب الغني مثقلاً بالجراح، يسوع "تألّم خارج باب المدينة"(عبرا 13: 12)، ورُفع على الصليب عرياناً، وجسده مخضّب بالدم ومثخن بالجراح
ويعلّم الآباء القدّيسون أنّ "لعازر الحقيقي" هو أيضاً الكنيسة التي، على مثال المسيح، مؤسّسها ورأسها وهي جسده، تُزدرى من البعض، وتُهمَّش، وتُحتقر، وتُرفض. بل ثمّة من يسخر منها ومن تعليمها وليتورجيتها ويهزأ بها وبرعاتها. لكنّها ثابتة وفي حالة قيامة، لأنّها المسيح السرّي. إنّها، يقول القديس أغسطينوس "تسير في هذه الدنيا بثبات، وسط محن العالم واضطهاداته وتعزيات الله". هذه الكنيسة مُؤتمنة على كلام الله، وهي "موسى والأنبياء" لعالم اليوم، مَن يسمع لها ولتعليمها يخلص. ولقد ردّد الآباء القديسون: "لا خلاص خارج الكنيسة
12. إنّنا نصلّي مجدّداً من أجل راحة نفوس موتانا، ونلتمس من المسيح الربّ أن يمنحنا نعمة الإيمان من سماع كلام الإنجيل وتعليم الكنيسة، وأن يُضرم في قلوبنا المحبة له ولإخوتنا الفقراء والمُعوزين، الحزانى والمتألّمين. فنستحق أن نرفع نشيد المجد والشكر للآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين
إنّنا نرحّبُ بكم جميعاً ونُحيّيكم، ونُعزّي الحزانى من بينكم، بخاصّة الذين فقدوا أعزّاء لهم في هذه السنة، ونقدّمُ هذه الذّبيحة مع المناولة وصلاة وضع البخور لراحة نفوس موتانا وجميعِ الأنفس المطهريّة، سائلين اللهَ الغنيَّ بالرحمة، باستحقاقات آلامِ المسيح وأمِّه وأمِّنا العذراءِ مريمَ والشهداءِ والقديسينَ أن يخفِّفَ من آلامهمِ المطهريّة، ويُمتِّعَهم بالمشاهدةِ السعيدة في مجد السماء. إنّها شركةُ القِدّيسين: أي كنيسةُ الأرضِ المجاهدة تستشفعُ كنيسةَ السماء الممجَّدة، من أجلِ كنيسة المطهر المتألِّمة
إنَّ قمّةَ صلاتنا من أجلِ موتانا تقديمُ قداديس على نيّتهم، مقرونة بأعمالنا الصالحة، وتوبتنا إلى الله، وبأعمال الخير والمحبّة تجاه الفقراء والمُعوَزين والمتألِّمين. كما نضمّ إليها أصوامَنا وإماتاتِنا طيلة الصوم الكبير، الذي سنبدأُه بعد أسبوع. هذه كلُّها تُشكّل قرابينَ روحيّة، نضمُّها إلى قربانِ المسيح الفادي في ذبيحة القداس، فنستحقَّ رحمةَ الله لموتانا الذين يحتاجون إلى تشفّعنا
وإنّنا نذكر في قدّاسنا وصلواتنا كل كلَّ الضحايا البريئة التي تقع في هذه الأيام على مذبح الوطن، في لبنان وسوريا وسواهما من البلدان. ونذكر على الأخصّ شهيدَي الجيش اللبناني النقيب بيار بشعلاني والرقيب إبراهيم زهرمان اللذَين استُشهدا في بلدة عرسال البقاعيّة أوّل من أمس، وهما يقومان بواجبهما الأمني المقدّس في خدمة العدالة. إنّهما ضحيّة ما يُسمّى، بكلّ أسف، "ألأمنُ بالتراضي"، ويحمل مسؤولية استشهادهما كلُّ الجهات السياسية التي تغطّي مثل هذه الاعتداءات على الجيش والقوى العسكرية والأمنية، والعبث بأمن المواطنين وهيبة الدولة. عزاؤنا لأهلهم وللجيش اللبناني، مناشدين الدولة وضع حدٍّ نهائي لكلّ هذه الممارسات
ستتسلَّمون في الأحدِ المقبل، مدخلِ الصوم، رسالتَنا الراعوية للمناسبة وعنوانُها: "الصومُ الكبير رحلةُ عبورٍ نحو الفصح". إنّها تُوجِّه مسيرتَنا الروحية طيلةَ زمن الصوم. نُبَيّنُ فيها قيمةَ الصوم وثمارَه الروحية، وندعو للالتزام بفريضته مقرونةً بالصلاة وبأعمال المحبّة والرحمة كواجبٍ علينا من باب الضمير لأجل خلاصنا، واستعدادًا لقبول ثمار الفصح المقدّس، بموت المسيح لفدائنا، وبقيامته لتقديسنا. كما نرسم، في رسالة الصوم هذه، خطَّ "رحلة الصوم الداخليّة"، وفقاً لمحطات أسابيعه الستّة وأناجيلِ الآحاد، قبل الدخول في أسبوع الآلام المقدّس
ثمّ ندعو فيها للالتزام "بتنظيمِ خدمة المحبّة الشّخصيّة والجماعيّة"، وفقاً لتوجيهات قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في الإرادة الرسولية الصادرة في 11 تشرين الثاني الماضي وعنوانها: "طبيعةُ الكنيسة الجوهرية وخدمةُ المحبّة". هذه الدعوة موجّهة إلى الأبرشياتِ والرهبانيّات والرعايا والمنظّماتِ الخيريّة والمؤسّسات الكنسيّة. ونُنهي رسالتَنا بتوجيهاتٍ لعيشِ سنة الإيمان، التي تدعونا لاكتشافِ طريقِ الإيمان من أجل إحياءِ فرح اللّقاء بالمسيح، وإذكاءِ حرارةِ الشهادة له ولمحبّته. ونرجو أن نَعْبُرَ، بنعمةِ موت المسيح وقيامته، وباستحقاقاتِ الصوم والصلاة والصدقة، إلى حياةٍ جديدة، وأن تَعبرَ أوطانُنا المشرقيّة إلى ميناءِ السلام العادل والدائم
"عندهم موسى والأنبياء، فليسمعوا لهم". سماعُ كلام الله ومعرفةُ وصاياه يولِّد فينا الإيمان. "فالإيمانُ من السماع" يقول بولس الرسول(روم10: 17). إذا آمنّا من كلِّ قلبنا وعقلنا، جسَّدْنا إيماننا بأفعالِ محبّةٍ للناس، وبخاصّةٍ للفقراء والمحتاجين والمتألِّمين من بينهم.الإيمان والمحبة ركيزتان تقوم عليهما الحياةُ المسيحيّة، بل كلُّ حياةٍ على وجه الدنيا. ألإيمانُ نورٌ للعقل، والمحبةُ حياةٌ للقلب
الأنبياءُ علّموا كلامَ الله الذي اكتمل بيسوع المسيح كلمةِ الله، وهو النبيُّ بامتياز، لأنّه الكلمةُ والمعلّم. موسى نقل وصايا الله العشر المختصرة بوصيةٍ واحدة هي محبةُ الله ومحبةُ الإنسان. بهذه الوصية المزدوجة يرتبطُ الخلاصُ الأبدي. ذاتَ يوم "سأل عالمٌ بالتوراة يسوعَ: "ماذا أعمل لأرثَ الحياة الأبدية؟ أجابه يسوع: ماذا كُتب في التوراة؟ كيف تقرأ؟ فقال: "أحبب الربَّ إلهك من كلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ قدرتك وكلّ فكرك. وأحبب قريبك كنفسك". فقال يسوع: بالصواب أجبت. إفعل هذا فتحيا"(لو10: 25-28؛ تثنية 5: 6؛ أحبار19: 18
في سنة الإيمان التي افتتحها قداسةُ البابا بندكتوس السادس عشر في 11 تشرين الأوّل 2012 نكتسب من مَثَلِ الإنجيل أمثولةً كبرى عن معنى الإيمان وارتباطِه بالمحبة. فالإيمانُ هو معرفةُ الحقيقة الموحاةِ من الله واعتناقُها(1 طيم2: 4)؛ والمحبّةُ هي السّيرُ في الحقيقة وترجمتُها بالأفعال(أفسس4: 15). في رسالته لمناسبة الصوم الكبير 2013، يتكلّم قداسةُ البابا بندكتوس السادس عشر عن العلاقة الوطيدة بين الإيمان والمحبة. فيقول: إنّ معرفةَ الله بالإيمان هي الطريقُ إلى المحبة. عندما نقول بعقلِنا نعم لكلام الله ووصاياه ونقبلُها حقيقةً مُنيرة، ونقول لها أيضاً نعم بإرادتنا عاملين بموجبها، تصبح المعرفةُ الإيمانية مَحبّة مُعاشة. بقدر ما تزدادُ معرفتُنا الإيمانية لله ولكلامه ولتعليم الكنيسة، تزدادُ عندنا مبادراتُ المحبة. ولذلك المحبةُ تفترض الإيمان. وعندما نلتقي الله بالإيمان في شخص المسيح، تُولد فينا المحبةُ التي تفتحُ قلوبَنا على الآخر. المحبّةُ لا تُفرَضُ من الخارج، بل تنبعُ من الإيمان في داخل القلب. "المحبة تستحثّنا"، يقول بولس الرسول(2 كور5: 14). كم مجتمعُنا في لبنان ومجتمعاتُ بلدان الشرق الأوسط بحاجة إلى معرفة الحقيقة وعيشِ المحبّة، وبالتالي إلى الكنيسةِ التي تُلبّي هذه الحاجة. فلا يجوز أن تُعاشَ الحياةُ بالغوغائيّة والفوضى، من دون العودة إلى التعاليم الإلهيّة
مشكلةُ الغني أنّه لم يعرف لا الإيمان ولا والمحبة. لم يتقاسم الخيرات مع لعازر الفقيرِ المطروحِ قدّامَ بابِ بيته متضوّراً جوعاً ومضروباً بالقروح. لم يؤمن ويصدّق أنّ خيراتِ الأرض مرتّبةٌ من الله الخالق لجميع الناس، وأنّ الخيراتِ المتوفّرة بين يديه، دليلٌ على محبّةٍ من الله، لكي يكونَ هو بدورِه وسيطَ محبّته. ولهذا علَّمَتِ الكنيسةُ دائماً أنّ المُلكيّة الخاصّة ليست مطلقة ومحصورة بصاحبها، بل هي مُقيَّدة برهن اجتماعي. فلا يحقّ لأحدٍ أن يحتفظَ لنفسه ولبيتِه فقط بخيرات الله، أيّاً كان نوعُها مادّيةً أم روحيّة، معنويّة أم ثقافيّة
يُمثّلُ الغنيَّ كلُّ صاحبِ سلطةٍ في العائلة والكنيسة والمجتمع والدولة، لأنّه يمتلك قدراتٍ متنوّعة هي بحدّ ذاتها وسائلُ للمساعدة. السلطةُ السياسية تمتلك قدراتِ الدولة ومالَها العام ومرافقَها ومؤسّساتِها، وهي مسؤولةٌ عن تأمين الخير العام الذي هو مجملُ أوضاع الحياة الاجتماعية التي تستطيع السلطةُ تأمينَها بنشاطها التشريعي والإجرائي والإداري والقضائي والاقتصادي، فيتمكّنَ الأشخاصُ والجماعاتُ من تحقيق ذواتِهم تحقيقاً أفضل(شرعة العمل السياسي في ضوء تعليم الكنيسة وخصوصية لبنان، ص6
إنّنا نُجدّد النداء إلى الحكومة اللبنانية لكي ترسمَ خطّةً إنقاذيّةً من أجل تحصين الاقتصاد الوطني، والنهوضِ به، بالانتقالِ من التراجع في مسار التّنميةِ إلى التقدّم المستدامِ والقادرِ على توفير فرص عملٍ جديدة للشباب، المتخرِّج سنويّاً بالمئات من الجامعات والمدارس الفنيّة والمهنيّة
وفيما نَثني على اجتماعاتِ الحكومة مع الهيئات الاقتصاديّة، آملين الأخذَ بورقةِ الإنقاذ والنهوض التي تقدّمها هذه الهيئات، فإنّنا نناشدُ، مع ذوي الإرادات الصالحة، السياسيينَ والاقتصاديينَ الفصلَ بين السياسة والاقتصاد. بحيث لا تُستعمل الأزمةُ الاقتصادية لأغراضٍ سياسيّة، ولا تُسيِّس السلطةُ السياسية العملَ الاقتصادي، بل تأتي قراراتُها بالشأن الاقتصادي منزَّهةً عن أيِّ مصلحةٍ شخصيّة وفئويّة، وعن أيِّ لونٍ سياسي يُوظَّف للإنتخابات النيابية المقبلة. بل المطلوب تأمين الخير العام، الذي منه خير الوطن وخير الجميع
إنّ إنقاذ الاقتصاد اللبناني والنهوض به وتحصينه مسؤوليّة مشتركة يتقاسمها القطاعان العام والخاصّ ومنوط بالتشركة بينهما، كما هو مسؤوليّة كلّ المواطنين والأحزاب والتكتّلات
فلا بدّ أوّلاً من تحصين الاستقرار الأمني، بإزالة بؤر السلاح غير الشرعي وجزر الأمن بالتراضي وبمنع أعمال الشغب، كقطع الطرق واحتلال مبانٍ ومرافق وأماكن عامّة، وتهديد المصالح الاقتصاديّة، لبنانيّة كانت أم أجنبية، والاضرابات المفتوحة من دون جدوى، وظاهرة الخطف من اجل طلب فدية. هذا الاستقرار الأمني والاجتماعي يوفّر الإطار الضروري لكي يأتي العمل الإقتصادي، بكلّ قطاعاته، فاعلاً ودؤوباً ومنتجاً، ولكي يجتذب الاستثمارات الخارجيّة، ويشجّع السياحة الدوليّة والعربيّة
إنَّ المسؤولين عن الشّأن الإقتصادي بكلّ قطاعاته، وعن تأمين سيره، إذا أساؤوا استعمال مسؤلياتهم، كانوا مثل الغني في الانجيل الذي مارس الظّلم والاستضعاف على لعازر الفقير المتمثّل في هذه الحالة بالجماعات اللبنانيّة المتأثرة في معيشتها وكرامتها ومصيرها من الأزمة الإقتصادية والإجتماعية والمعيشية والإنمائية. وكذلك كلُّ مَن يستعمل سلطته ونفوذه ليفتعل العنف والحرب ويمارسهما لأغراضٍ سياسيّة واقتصاديّة وسواها، ويقتل المواطنين الأبرياء ويهجّرهم ويدمّر بيوتهم، إنّما يُعيد دور الغنيّ في الإنجيل الذي كان مصيره الهلاك الأبدي
تعلّم الكنيسة أنّ لعازر الفقير صورةٌ عن يسوع المتألِّم، لعازر الحقيقي الذي نساعده عبر كلّ فقير متألِّم، وقد تماهى معه: "كنتُ جائعاً، عطشاناً، عرياناً، غريباً، مريضاً، محبوساً"(متى 25: 34-40). يسوع، "لعازر الحقيقي" تنبّأ عنه أشعيا قبل سبعماية سنة: "مزدرى ومتروك من الناس، رجلُ أوجاع وعارفٌ بالألم. ومثل من يُستر الوجهُ عنه. لقد حمل آلامنا واحتمل أوجاعنا، فحسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلَّلاً"(أشعيا 53: 3-4). ومثل لعازر المرتمي على باب الغني مثقلاً بالجراح، يسوع "تألّم خارج باب المدينة"(عبرا 13: 12)، ورُفع على الصليب عرياناً، وجسده مخضّب بالدم ومثخن بالجراح
ويعلّم الآباء القدّيسون أنّ "لعازر الحقيقي" هو أيضاً الكنيسة التي، على مثال المسيح، مؤسّسها ورأسها وهي جسده، تُزدرى من البعض، وتُهمَّش، وتُحتقر، وتُرفض. بل ثمّة من يسخر منها ومن تعليمها وليتورجيتها ويهزأ بها وبرعاتها. لكنّها ثابتة وفي حالة قيامة، لأنّها المسيح السرّي. إنّها، يقول القديس أغسطينوس "تسير في هذه الدنيا بثبات، وسط محن العالم واضطهاداته وتعزيات الله". هذه الكنيسة مُؤتمنة على كلام الله، وهي "موسى والأنبياء" لعالم اليوم، مَن يسمع لها ولتعليمها يخلص. ولقد ردّد الآباء القديسون: "لا خلاص خارج الكنيسة
12. إنّنا نصلّي مجدّداً من أجل راحة نفوس موتانا، ونلتمس من المسيح الربّ أن يمنحنا نعمة الإيمان من سماع كلام الإنجيل وتعليم الكنيسة، وأن يُضرم في قلوبنا المحبة له ولإخوتنا الفقراء والمُعوزين، الحزانى والمتألّمين. فنستحق أن نرفع نشيد المجد والشكر للآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين