"ها هو حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم"
(يو1: 22)
في هذا الأحد الأوّل بعد عيد الغطاس أو الدنح، تتأمّلُ الكنيسة في شهادة يوحنا المعمدان عن يسوع المسيح، الذي بالأمس اعتمد على يده، فكان الظهورُ الإلهيّ – وهذا هو معنى لفظة دِنْح السريانية – يومها نزل الروحُ القدس واستقرَّ فوق رأس يسوع، وجاء صوتٌ من السماء يُعلن أنَّ يسوعَ هو ابنُ الله. هذا الروحُ إيّاه شملَ أيضاً يوحنا المعمدان، فإذا به في اليوم التالي، يتنبّأُ أنَّ يسوعَ "هو حملُ الله الذي يرفع خطيئة العالم"(يو1: 22
يسعدني أن أرحّبَ بكم جميعاً، وقد أتيتم لكي نُجدّدَ معاً إيماننا بيسوع المسيح ابنِ الله الذي صار إنساناً، وكشف لنا قيمةَ الإنسانِ وكرامتَه، وافتدى البشريةَ جمعاءَ من الهلاك؛ حاملاً خطايا كلِّ إنسان، ومائتًا على الصليب. فجرى منه على العالم غفرانُ الخطايا للتائبين، وانتشرتْ ثقافةُ الغفران والمصالحة، التي تنادي بها الكنيسةُ وتمارسُها. فلنرفع أنظارَنا وقلوبَنا إلى صليب المسيح، وليتذكّرْ كلُّ واحدٍ منّا أنَّ في ذبيحةِ القداس تستمرُّ وتتواصل ذبيحةَ فدائه بشكلٍ أسراريّ، وأنّ يسوعَ يحملُ خطيئةَ كلِّ واحدٍ منّا حقيقةً وواقعاً ويفتدينا، مُقدِّماً لنا الحياةَ الجديدة. فلنتقدّمْ إلى مذبح الغفران ووليمةِ الحياةِ الإلهية، من أجل حياةٍ أفضل فينا وفي العالم
تُخصّصُ الكنيسةُ هذا الأحد "يوماً عالميّاً للمهاجر واللاجئ". فوجّه قداسةُ البابا بندكتوس السادس عشر للمناسبة رسالةً كالمعتاد، موضوعُها: "الهجرات: مسيرةُ حجٍّ بالإيمان والرجاء
وإنّنا نُصلّي في قداسنا اليوم مع غبطةِ البطريرك يوحنّا العاشر، بطريرك انطاكيه وسائر المشرق لكنيسة الروم الارثوذكس الشقيقة، الذي يرئسقداسَ الأربعين لراحةِ نفس المثلّث الرحمة البطريرك اغناطيوس الرابع هزيم. فنجدّدُ لغبطة البطريرك يوحنّا العاشر وللكنيسة تعازيَ الرجاء، سائلين لراعيها الراحلِ ثوابَ الرّعاة المخلصين، ولراعيها الجديد التأييدَ الإلهي في خدمته الرسولية الشاملة
شهادةُ يوحنا المعمدان أنّ يسوعَ هو "حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم"(يو1: 29) تتميّزُ بأنّها نبويّة تفسيريّة لما حدث بالأمس عندما تقدّمَ يسوعُ ليعتمدَ من يوحنا، فاعترض هذا الأخير معتبراً أنّه هو الذي يحتاجُ لأن يعتمدَ من يسوع، لكنَّ يسوع أجاب: "يحسن بنا أن نتمَّ كلَّ برّ(متى 3: 15). هذا البرُّ ظهرَ عندما مشى يسوعُ مع الخطأة، وأعلنه الصوتُ من السّماء أنّه ابنُ الله الوحيد، فإذا به فادي البشر أجمعين الذي يحملُ خطايا العالم، ويُصلَب فداءً عنهم، من دون أن يرتكبَ أيّةَ خطيئة شخصيّة
هكذا تنبأ عنه أشعيا قبل 700 سنة أنّه خادمُ الله المتألّم الذي "حملَ آلامنا واحتمل أوجاعنا...طُعن بسبب معاصينا وسُحق بسبب آثامنا. نزل به العقاب من أجل سلامنا وبجرحه شُفينا...كحملٍ سيق إلى الذبح ... ولم يفتح فاه"(أشعيا 53: 4 و 5 و7
هذه الشهادة تدعونا لنعيشَ حياةً مسيحية، في العائلة والمجتمع والدولة، تليق بثمن فدائنا، على ما كتب بطرس الرسول: "تعلمون أنّكم لم تُفتدوا بالفاني من الفضّةِ والذهب من سيرتِكم الباطلة، بل بدمٍ كريم، دمِ الحملِ الذي لا عيبَ فيهِ ولا دنس، دمِ المسيح(1 بطرس1: 19). بهذا أظهر المسيحُ الإنسانَ لذاته، وكشف سموَّ دعوته. فهو مُزيَّنٌ بنفْسٍ روحيّة وعقلٍ وإرادة، لكي يواصلَ كمالَه في البحث عن وجهِ الله، وفي عيشِ المحبّةِ والحقيقةِ والخير، سعيًا إلى السعادةِ الأبديّة، التي من أجلها خلقَهُ الله. والحريّةُ الحقيقيّة التي ينعم بها هي علامةُ الصورةِ الإلهيّة التي فيه. بفضل هذه الحريّة الداخليّة يستطيعُ اتّباعَ الشريعةِ الأخلاقيّة التي تُوَجّه ضميرَه وتستحثُّه ليعملَ الخيرَ ويتجنّبَ الشرّ. وعليه أن يُدركَ أنّه بمخالفتِه لهذه الشريعة، إنّما يُسيءُ استعمالَ حرّيتِه بسبب الخطيئةِ التي تجرحُ طبيعتَه وتميلُ بها إلى الشر(كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1710-1714
العالمُ بحاجةٍ إلى أشخاصٍ أحرار، ولاسيّما على مستوى المسؤولين السياسيّين والعاملين في القطاع العام، لكي ينكبّوا على العمل السياسيّ وممارسةِ الوظيفة العامّة بروح التجرّدِ من المصالح الشخصيّة والفئويّة، ومن المكاسب المادّيّة، ومن الفساد والرّشوة وسرقة المال العام. نحتاجُ إلى مسؤولين أحرار من ذواتهم ومن غيرهم، وبالتالي قادرين على اتّخاذ مواقف وقرارات جريئة وشجاعة بوجه التسلّط والهيمنة والظلم والاستقواء، ويبذلوا كل جهد في سبيل الخير العام بصدقٍ وعدلٍ وإنصاف
وفي هذه الأيام، حيث الحديثُ والسعيُ إلى وضعِ قانونٍ جديدٍ للإنتخابات، يتجاوز قانونَ الستّين، لا بدّ لكلّ فريق من مُكوّنات المجتمع اللبناني، أن يتحرّرَ من حساباته الشخصيّة والفئويّة، ومن الهيمنةِ على غيره وعلى مواقع القرار الوطني. فالقاعدة هي التي يرسمها الدستور اللبناني في مقدّمته وفي المادّة 24 على مستوى المجلس النيابي أي العيش المشترك بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين ونسبيًّا بين الطوائف والمناطق، والإقرار بلا شرعية لأيّة سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك. المطلوب هو وجوبُ "التوصّلِ إلى قانون إنتخاب يؤمّنُ أفضلَ تمثيلٍ وعدالة وسلامة لكلّ الطوائف اللبنانيّة"، بحيث يُتاحُ لكلِّ مواطن لبناني أن يُمارس حقَّه في انتخابِ مَن سينوب عنه بحريّة ومسؤوليّة، ويشعر بأنّه يستطيع مساءلة ومحاسبة مَن ينتخبُه. فلا يُفرَض عليه فرضًا. كلّ ذلك من أجل أن يتمكّن لبنان، بجناحَيه المسيحي والمسلم، أن يكونَ بالفعل "نموذجًا ورسالة" لغيره من البلدان، فينعكسَ إيجابيًّا على بلدان الشرق الأوسط التي تبحث عن هويّتها وتصبو إلى إصلاحاتٍ في بُنيَتها، آسفين أن يلجأَ بعضُها إلى العنفِ والحرب والترهيب
نقرأ في الإرشاد الرسولي: رجاء جديد للبنان: "إنَّ ازدهارَ العيشِ المسيحي – الإسلامي الواحد في لبنان، يُعطي نكهةً مميِّزةً لمجتمعاتِنا الشرق أوسطيّة، ويساعدُ على تحقيق الخطوة ذاتِها في هذه المجتمعات، ببناء مستقبلِ عيشٍ مشتركٍ وتعاون، يهدف إلى تطويرِ شعوبِها تطويرًا إنسانيًّا وأخلاقيًّا. وبهذا يُزهر لبنانُ من جديد. ويلبّي دعوتَه بأن يكون نورًا لشعوب المنطقة، وعلامةً للسلامِ الآتي من الله"(الفقرتان 93و125
في رسالته بمناسبة اليوم العالمي للمهاجر واللاجئ، الذي تحتفلُ به الكنيسةُ في هذا الأحد، يؤكّدُ قداسةُ البابا بندكتوس السادس عشر، في خطِّ تعليم المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني والأحبارِ الرومانيّين سلفائه أنّ "الكنيسةَ تسير مع البشريّة جمعاء، تشاركُ جميعَ الناس في أفراحهم وآمالهم، حزنِهم وقلقهم، وبخاصّة الفقراء منهم والمتألّمين. وتجعلُ من كلِّ شخصٍ بشريّ طريقَها الأوّل حيث تمارسُ رسالتَها في الشهادة لمحبّة المسيح الذي خطّ هو أوّلاً هذا الطريقَ الهادفَ إلى إنماء الشخص البشري إنماءً أنسانيًّا شاملاً". وبالحديث عن موجات الهجرة، قال إنّها "ظاهرةٌ تضعُ الجماعاتِ الوطنيّة والجماعةَ الدوليّة أمام تحدّياتٍ مأساويّة بسببِ تنامي عدد المهاجرين واللاجيئين والنازحين، تنشأُ عن المعضلات والمشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والدينيّة والأمنيّة. وفي كلّ ذلك يبقى هؤلاء الأشخاص أصحابَ حقوقٍ أساسيّة غيرِ قابلة للإنتهاك، وتستوجبُ احترامَها من قِبَل الجميع وفي كلّ مناسبة
بهذه الروح نحن في لبنان، فتحنا أبوابَنا واسعةً، تِباعًا للاّجئين الفلسطينيّين وللأسيويّين والأفريقيّين وللأخوة العراقيّين واليوم للأخوة السوريّين. وقَبِلنا التحديّات، ودفعنا الثمنَ الغالي. لكنّنا نريد أن تعملَ مثلَنا البلدانُ الأخرى، فلا تُقفل أبوابَها بوجهِ النازحينَ الهاربين من نار الحرب، المُشرَّدين من بيوتهم، والمحرومين من أدنى مقوّمات العيش، ولاسيما الأبرياء وبخاصّةٍ النساء والأولاد والأطفال. ولكن من واجبِ الدولة اللبنانيّة إتّخاذَ التدابير الوقائيّة اللازمة لكي لا تصبحَ استضافةُ النازحين واللاجئين عبوةً مؤقّتة أمنيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا. أما الواجبُ الضميري الأساس فيقعُ على كلّ الذين يُغذّون الحرب في سوريّا، من الداخل ومن الخارج، ويستصرخهم ليضعوا حدًّا لها وللتعدّي على الاشخاص، ويجدوا الحلول السلميّة العادلة والشاملة لنزاعهم
الكنيسة من جهتِها ملتزمة في خدمة هؤلاء جميعًا، الى أيّ دين انتموا، عبر مؤسّساتها الاجتماعيّة، ولاسيّما عبرَ جهازها الاجتماعي – الراعوي الذي هو رابطة كاريتاس لبنان. إنّها تصبُّ اهتمامَها على مساعدة الأخوة النازحين من سوريّا منذ شهر نيسان من العام الماضي عاملةً بعون الله والخيّرين وبالتعاون مع أجهزة الدولة والمؤسّساتِ الاجتماعيّة على تعزيزِ هذه المساعدة. وقد شملت عشراتِ الألوف من العائلات النازحة من سوريّا في أماكن تواجدها ولاسيّما في البقاع والشمال، مُوفِّرةً لأفرادها الموادَ الغذائيّة والألبسة والأغطية الشتويّة والفرش وموادَ التنظيف الشخصي والمنزلي والأدوية والمعاينات الطبيّة والتعليم للأولاد
ونظرًا لازديادِ عدد النازحين للاسف وتكاثرِ الحاجات الرئيسة ولاسيّما في فصل الشتاء الشديد الوطأة إلى أدوية واستشفاء، تدعو رابطة كاريتاس لبنان إلى يومٍ تضامني مع النازحين السوريّين يُقامُ في الأحد 27 من الشهر الجاري، بحيثُ تباشرُ الرعايا والأديرة والمدارس والمؤسسات الكنسية والمدنية في جمعِ التبرّعاتِ والهباتِ الماليّة والعينيّة، وفقًا للتعليمات التي ستعمِّمُها كاريتاس – لبنان. والجميعُ مدعوّون للصلاة من أجل إحلال السلام في سوريّا والمنطقة
ربُّنا يسوع المسيح فادي الإنسان، "حملُ الله الذي يرفع خطيئة العالم" يسيرُ إلى جانب كلِّ إنسان، ولاسيّما اللاجئ والمتألّم، ويدعوه إلى الإيمان والرجاء بحضوره، وإلى لقائه ورؤية وجهِه في مبادراتِ المحبّة والجودة والتضامن. فليكنْ كلُّ واحدٍ منّا نجمةَ محبّةٍ ورجاء، تعكسُ وجهَ يسوع، الشمسَ الساطعة على ظلماتِ الحياة والتاريخ. ولنرفع بأعمالِنا ومبادراتِنا نشيدَ الشكر والتسبيح للآب والابن والروح القدس إلى الأبد، آمين